البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

"طيب تيزيني" والقرآن الكريم ، من وهم تاريخية النص الى اجترار شبهات المستشرقين

الباحث :  د. سعيد عبيدي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  14
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2018
عدد زيارات البحث :  2522
تحميل  ( 286.198 KB )
في أواخر الستّينيات، وبعد النكسة العربية واحتدام التنافس بين الحضارة العربية والغربية، ظهرت مشاريع "فكرية حداثية" دعا أصحابها إلى إعادة قراءة التراث العربي والإسلامي ومحاولة معرفـة سبب الانحطاط والتخلّف وطرح الحلول لذلك، من هؤلاء المفكّرين من رأى وجوب إبعاد القرآن الكريم عن السّاحة واعتباره نصًّا تاريخيًا محصورًا في حقبةٍ زمنيةٍ معيّنةٍ لا يجب تجاوزها، ومنهم من رأى ضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية قراءةً حديثةً، قراءة أقلّ ما يقال عنها أنّها قراءةٌ تدعو إلى تفريغ جعبة النصّ الديني من مفاهيم العالمية ونزع صفة الخلود والصلاحية لكلّ زمان ومكان عنه، وذلك بغية الالتفاف على حقيقةِ كونيةِ القرآن الكريم، من خلال إحالته إلى التاريخ، والنظر إليه باعتباره نصًّا تاريخيًا محكومًا بشروطٍ تاريخيةٍ وظرفيةٍ يزول بزوالها، وتعمل على ربط القرآن بسياقات تنزيله وتفسير معانيه تفسيرًا قاصرًا، من خلال الخوض في مسألة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، والمكّي والمدني، وغيرها من القضايا. 

من هذه المشاريع مشروع طيب تيزيني([1]) صاحب كتاب "النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة"، الذي ينتقد فيه طريقة تفكير الإسلاميين الذين لا يعيرون تغيّرات التاريخ الكبرى كثيرًا من الاكتراث، ممّا يجعلهم لا يفهمون الفرق بين حال الدولة الإسلامية والأحكام الشرعية والقانونية التي كانت آنذاك، وبين الواقع الراهن، وفي سعيهم إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية يسقطون في حالة اغترابٍ وإحباطٍ تجاه هذا العالم، ويُغذّون عقدة المؤامرة من حيث لا يشعرون، من هنا يدافع تيزيني عن شرعية القراءة المعاصرة والتاريخية للقرآن الكريم بصفةٍ خاصّةٍ والنصوص الشرعية بصفةٍ عامّة، هذه القراءة التي يتصوّر أنّها تضمن واقعية الإسلام، ولكنّ ذلك في الحقيقة كما يبدو - وكما سنعرف لاحقًا في هذه الدراسة - هو بمثابة لعبٍ بالدلالات الشرعية، وتحريفٍ للنّصوص، وتأويلها على غير القصد الذي أريدت له، بل تكرار لما جاء به المستشرقون سابقًا وأفنوا أعمارهم فيه، سعيًا منهم إلى محاولة تقويض هذا الدين وهدم أركانه، فالطيب تيزيني يصرّ على ضرورة تفسير القرآن الكريم كلّه بناءً على الظروف التاريخية التي نزل فيها أوّلًا، وهذا يعني في نظره أنّ النصّ الديني (الوحي) يفقد قدرته على إنتاج الأحكام؛ لأنّه ارتبط بتاريخٍ زائل، ويعني من جهة ثانية الاستمرار في جرّ الإسلام لمباركة الواقع الجديد وإضفاء صفة الشرعية عليه، لكنّ ما خفي عن هذا المفكّر هو أنّ القرآن الكريم يتّسع لسائر الأفهام والاجتهادات، ومنسجم مع سائر المذاهب والفلسفات، ومتلوّنٌ مع سائر التطورات والأحوال.

   لقد دعا طيب تيزيني صراحةً وفي أكثر من موقفٍ إلى إعادة قراءة النصّ القرآني وتأويله وفق ما يتماشى مع العصر وإن اقتضى الأمر تعطيل بعض الآيات وبعض الأحكام؛ يقول: "لقد جرى تعليق مجموعةٍ من الأحكام والقواعد القرآنية على مدى قرونٍ طويلة، كانت بداياته الأولى (أي التعليق) قد تمثّلت بصيغة "الناسخ والمنسوخ"، حين تبيّن لمحمّد الرسول أنَّ آياتٍ معيّنةً أصبحت دون إمكانية الاستجابة لواقع الحال المشخّص المعني في حينه، وقد اكتسب هذا الأمر طابعًا قرآنيًا، أي مقرًا به حكمًا، والسؤال الآن يفصح عن نفسه على النحو التالي: إذا كان النبي نفسه قد ارتأى – عبر الوحي – ضرورة إعادة النظر في آيات معيّنة، فلِمَ لا يصحّ ذلك على أيدي الناس المؤمنين الخاضعين للتّغير الاجتماعي مدًّا وجزرًا، وكذلك – وهنا الدلالة البليغة – التي جاء النصّ من أجلها (للنّاس كافّة)؟. لقد أُوقف زواج المتعة، وحكم المؤلّفة قلوبهم، والرقّ، ممَّا عنى – ويعني – أنَّ الوضعية الاجتماعية المشخّصة هي التي تمثل الأمر الذي يُحتكم إليه في ذلك، وإن تمّ على نحوٍ خفيّ أو على سبيل المداورة"([2]).

   وفي نفس السياق يذهب طيب تيزيني إلى أنّ احتواء القرآن الكريم على "المحكم والمتشابه" هو من فتح الباب وحفّز الجميع على إعادة قراءة النصّ القرآني ونقده؛ يقول: "سبب بروز مسألة المحكم والمتشابه يتمثل في أنّ النصّ أعلن ذلك صراحةً وأقرّ به على نحوٍ حفّز الجميع – بتوجّهاتٍ وتطلّعاتٍ أيدلوجيةٍ وأدواتٍ معرفيةٍ مختلفة – للإبقاء على الأبواب والنوافذ مشرّعةً أمام حركةٍ متناميةٍ من التمحيص والتقميش والتدقيق والجرح والتعديل للنصّ القرآني، وذلك بهدف تبيُّن ما هو محكم فيه وما هو متشابه [...] ويلاحَظ أنّ مسألة المحكم والمتشابه هذه سوف تمرّ بتصعيدٍ سياسيٍ أيديولوجيٍ كبيرٍ وخطيرٍ مع موت النبي وبروز قضيّة الحكم (الخلافة). نذكّر هنا باجتماع السقيفة مثلًا وبما أعقبه من أحداثٍ عاصفةٍ كان كلّ من وجهوها أو وقفوا وراءها قد امتلكوا مسوغاتهم القرآنية الشرعية"([3]).

وبإعلان النصّ أنّه يشتمل على المحكم والمتشابه سوّغ الاختراقات وأذِن للقراءات المتعدّدة، وهو ما يؤكّده تيزيني في موضع آخر حيث يقول: "نعم لقد أشار النصّ القرآني نفسه إلى أنّ متنه يقوم على المتشابه والمحكم في آنٍ، ومن ثمّ فهو مارس هنا نشاطًا ذهنيًا مكثفًا تبلور فيما نطلق عليه المصطلح المركّب "وعي الوعي"، فهو قد وعى بوضوح ومن موقع معجميّته الدينية الخاصّة البنية الإشكالية التي يقوم عليها بناؤه العقيدي [...] فهو بتركه ذلك مفتوحًا احتماليًا جعل من نفسه عرضةً لعمليةٍ بنيويةٍ من الاختراق والنفاذ والتجاوز لا سبيل إلى إيقافها"([4]).

ومن جملة ما تفتّقت به قريحة طيب تيزيني في دراسته للقرآن الكريم تشكيكه في إعجاز هذا الكتاب الرباني من باب القول بعدم أميّة النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ يقول في هذا الصدد: "نشكّك بترجيحٍ حاسمٍ في التصور الذي نشأ في سياق بروز الفكر الإسلامي وتبلوره لاحقًا بعد محمّد، والذي يرى أنّ الإعجاز يكمن في أحد أوجهه الكبرى في أنّ محمّدًا لم يكتب ولم يقرأ، أي في أنّه كان أمّيًا، وذلك لأنّ هذا التعبير الأخير لا يعني: الذي لا يقرأ ولا يكتب"([5]).

ودون عناءٍ يُذكر، نجد أنّ هذا القول ما هو إلا تكرارٌ لما قال به المستشرقون سابقًا وعلى رأسهم مونتغمري وات حيث أكّد على "أنّ الإسلام التقليدي يقول بأنّ محمّدًا لم يكن يقرأ ولا يكتب، ولكنّ هذا الزعم ممّا يرتاب فيه الباحث الغربي الحديث، لأنّه يقال لتأكيد الاعتقاد بأنّ إخراجه للقرآن كان معجزًا، وبالعكس لقد كان كثيرٌ من المكّيين يقرؤون ويكتبون، ولذلك يُفترض أنّ تاجرًا ناجحًا كمحمّدٍ لا بدّ أن يكون قد عرف شيئًا من هذه الفنون"([6]).

   هكذا إذًا، نرى طيب تيزيني يلوك أقوال المستشرقين ليس إلا، ويزعم أنّ التنزيل الحكيم ما هو إلا سيرةٌ ذاتيةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، ليصل في نهاية المطاف إلى القول بتاريخية النصّ القرآني، وهي المسألة التي أكّد عليها مختلف الدارسين الحداثيين للقرآن الكريم؛ يقول: "النصّ القرآني يمثّل بنيةً مفتوحة، يسطر منجّمًا وفق الأحداث والمناسبات التي عاشها النبي ورافقها، واتّخذ منها موقفًا، وقد عمل ذلك على إبراز أنَّ النصّ المنزل عبر الوحي ذو مساسٍ مباشرٍ وعينيٍ بأحوال المؤمنين والكفّار معًا بحيث إنَّ محمَّدًا لم يكن بعيدًا عنه [...] إنَّ ذلك مجتمعًا ومن موقع سياقه التاريخي والتراثي، أظهر القرآن وكأنَّه سيرةٌ ذاتيةٌ للنبي، تتحدّث عن عملية التكوين النفسي والأخلاقي والديني والسياسي... التي أثمرت شخصيّته النافذة على نحوٍ ملفت، ولقد كان من شأن ذلك ومن نتائجه الحافزة أن أخذت أرهاطٌ من الفقهاء والكتّاب الإسلاميين تحاول استنباط أمرٍ أرادوا له أن يكون بمثابة موقفٍ شرعيٍ أو حكمٍ فقهي، هذا الأمر يتمثل في النظر إلى أنَّ: قاعدة تفسير آيات القرآن وفقًا لأسباب تنزيلها تؤدّي إلى واقعيّة هذه الآيات وتنتهي إلى تاريخيّتها، وتفرض ربطها بالأحداث، ومن ثمّ ينبغي تفسير القرآن بأسباب تنزيله لا بعموم ألفاظه"([7]).

نفهم إذًا من قول تيزيني أنّ ربط الأحكام التشريعية القرآنية بأسباب نزولها وقصرها على من نزلت فيهم هو عين الصواب، لكنّ هذا في نظرنا يعني تاريخية المضمون ونسخ المفهوم في هذه الآيات وبقاء اللّفظ دون وظيفةٍ إلا من وظيفته التعبُّدية، الأمر الذي ستتساوى فيه النصوص القرآنية عندئذ مع النصوص "الميتة" والدارسة.

   ولم يقف طيب تيزيني عند هذا الحدّ بل استنتج في دراسته للقرآن الكريم وجود تناقضٍ واختلافٍ كبيرَين بين آيات القرآن الكريم وسوره، وخاصّةً بين السور المكّية والسور المدنية، يقول: "فمن حرية الإرادة في الدور المكي انتهى بعد الهجرة إلى جبريةٍ مطلقة أكثر فأكثر [...] ولكنَّ المسألة ستبدو على نحوٍ آخر أكثر تعقيدًا [...] حينما نلاحظ أنَّ تطوّر شخصية محمّد لم يأخذ منحًى خطيًا وذا بعدٍ واحد، بحيث إنّه لا يصحّ النظر إلى المرحلتين المذكورتين (أي المرحلة المكّية والمرحلة المدنية) على أنّهما حقبتان تاريخيتان متعاقبتان تمامًا، وعلى أنَّ الواحدة منهما مستقلّة عن الأخرى [...] إذ كيف سيكون الموقف حين نتبيّن أنّه في المرحلة الواحدة توجد آياتٌ متناقضةٌ متعارضةٌ تناقضًا وتعارضًا لا يمكن التشكيك فيهما من قبل مَنْ يمتلك حدًّا ضروريًا من الفهم اللّغوي العربي؟ بل كيف سيكون الموقف حين نواجه في السورة الواحدة بل في الآيتين المتتاليتين نصَّين متناقضَين؟"([8]).

وتعقيبًا على كلام تيزيني لا بدّ أن نشير إلى أنّه من صنو الشبهات التي "سبقه إليها المستشرقون الذين يرون أنّ القرآن الكريم قد اشتمل على أمورٍ كثيرةٍ متعارضةٍ ومتناقضةٍ في كثير من الأحيان وغير معقولةٍ في أحيانٍ أخرى، وهذا أمرٌ طبيعيٌ ينسجم ومصدر القرآن البشري في نظرهم المتّصف بالضعف والقصور وكثرة الخطأ وما إلى ذلك ممّا هو من صفات البشر"([9]).

والقول بوجود تناقضٍ في القرآن الكريم حاول المستشرقون إثباته في كثير من المواضع، حتى يؤكّدوا على بشرية التنزيل الحكيم؛ يقول شيخ المستشرقين جولد زيهر: "من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبًا عقيديًا موحَّدًا متجانسًا وخاليًا من التناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهميةً وخطرًا إلا آثارٌ عامّةٌ نجد بينها إذا بحثناها في تفاصيلها أحيانًا تعاليم متناقضة"([10]). وجاء في الموسوعة البريطانية الشهيرة أنّه "يصعب جدًّا تصنيف محتويات القرآن، حيث إنّه إذا صنّفت محتوياته حسب الفترة الزمنية فإنّ هذا يؤدّي إلى تناقض، حيث إنّ الموضوع المعالج لبعض المواد يختلف باختلاف الفترة الزمنية"([11]).

فطيب تيزيني كما أشرنا سابقًا لم يأتِ بأيّ جديدٍ وإنّما عمل على تكرار أقوال المستشرقين الذين لم يكلّوا من إثارة الشكوك والشبهات حول القرآن الكريم، إيمانًا منهم بأنّه دستورُ هذه الأمّة، فإن هم شكّكوا فيه وهدموه يكون هدمُ وتقويضُ ما دونه أهون.

ومن الأمور التي توصّل إليها طيب تيزيني أيضًا في دراسته للقرآن الكريم قوله إنّ نسخ الآيات والسور يتمّ بإرادة النبي (صلّى الله عليه وسلّم) دون أمر من الله تعالى، وهو ما اصطلح عليه "وقوع النسخ في عالم النبي الذاتي"؛ يقول: "وهنالك حالةٌ بالغة الرفاهة والخصوصية بالنسبة إلى تصوّر الوحي وعلاقة الرسول به، إنّها الحالة التي تتمثل في أنّ النسخ لسورةٍ ما يتمّ ضمن عالمه الذاتي الداخلي، دونما تدخّلٍ مباشر من خارج، وقد يكمن وراء ذلك أنّ الرسول الداعية والفاعل اجتماعيًا يتبيّن بإحالةٍ من وحيه أنّ سورةً ما جاءته من هذا الأخير لا تستجيب لاحتياجات البشر المقدّمة إليهم فتلغى وتنسخ ضمنًا"([12]).

والقول بالوحي أو النسخ من قبيل الذات أو النفس – أي أنّ الوحي نفسي أو هاجسٌ داخلي، وليس أمرًا خارجيًا هابطًا على الموحى إليه – لم يقل به طيب تيزيني وحده بل قال به أغلب الحداثيين([13])، وعلى رأسهم هشام جعيط الذي ذهب إلى أنّ "كبار المؤسّسين للأديان كانوا كذلك، على الأقلّ من وجهة أنّهم سخّروا حياتهم لهاجسٍ داخليٍ ونداءٍ باطني"([14]). ويقول أيضا: "الوحي إنّما هو هجوم مباغت داخل الضمير لألفاظٍ ومعانٍ مطبوعةٍ بالغيرية، وقد يكون الوحي مستوحًى أي مطلوبًا في الفترة المدنية ومترقّبًا في آن، وكان من الممكن ألا توجد رؤيا أو وحيٌ إلهي، وأن يتكلّم النبي عن الله ووحدانيته ونظام الكون واليوم الآخر والعبادات والأخلاق من لدنه، ويجد من يتبعه، وكان هذا شأنُ ماني وبدرجة أقلّ شأنُ زرادشت وبوذا"([15]).

إنّ القول بـ "الوحي أو النسخ النفسي" أو القول بأنّ "القرآن فيضٌ من خاطر محمّد صلّى الله عليه وسلّم أو انطباع لإلهامه، أي إنّه ناتجٌ عن تأمّلاته الشخصية وخواطره الفكرية وسبحاته الروحية، هو نظريّةٌ مأثورةٌ عن المستشرق مونتييه وفصّلها إميل درمنغام، وحاصلها أنّ الوحي إلهامٌ يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، ذلك أنّ منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادةٍ وثنية، وتقاليد وراثية، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلّى في ذهنه، ويُحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية، فيتصوّر ما يعتقد وجوبه إرشادًا إلهيًا نازلًا عليه من السماء بدون وساطة"([16]).

إنّ هذه النظرية التي جاء بها طيب تيزيني ما هي إلا اجترارٌ لقول المستشرقين وقول العرب الجاهليين قبلهم في النبوة والوحي، غير أنّ الفكر الاستشراقي والفكر الحداثي بصفةٍ عامّةٍ أخذا بعرض ما أكل الدهر عليه وشرب بصورةٍ حديثةٍ برّاقةٍ تتمحور في أنّ رجال الوحي أناسٌ استغرقوا في التفكير في أمنياتهم عقودًا من الدهر حتّى رأوها ماثلةً في خيالهم وآمال حسّهم وهو ما نقله القرآن الكريم بقوله: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: 5].

لقد أكّد طيب تيزيني في أكثر من موضع على القول بالوحي أو النسخ النفسي الذاتي، في الوقت الذي غاب عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكنه أن يزيد أو ينقص كلمة، فبالأحرى نسخ آيةٍ أو آيات، كيف يقوم بذلك وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44-47].

وارتباطًا بموضوع الوحي والنسخ يرى طيب تيزيني أنّ القول بـ"أزلية النصّ القرآني" مرفوضة، لأنّها لا تتماشى مع ظاهرة النسخ التي تشتمل على الإلغاء والتعديل؛ "فإذا كانت كلّ تلك الصيغ الثلاث من الناسخ والمنسوخ (ما نُسخ حكمًا وبقي تلاوةً، وما نُسخ تلاوةً وبقي حكمًا، وما نُسخ تلاوةً وحكمًا معًا) تشير ضمنًا وصراحةً إلى التشكيك بأزلية النصّ، بل ورفضها، فإنّ الصيغة الأخيرة منها خصوصًا تفضي إلى وضع مصداقية القول بأنّ المصحف العثماني يشتمل على كلّ ما أملاه النبي على كتّابه قرآنًا موضع الشكّ والارتياب"([17]). وفي هذا الصدّد يدعو إلى إعادة النظر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، لأنّ مفهوم الحفظ لا يتناسب مع ظاهرة النسخ حسب زعمه؛ يقول: "فإذا كان هنالك – بإقرار من النصّ ذاته ومن ثمّ من الفكر الإسلامي – مشكلةٌ محدّدةُ الملامح هي تلك المسألة (الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه) أفلا يفضي ذلك إلى طرح فكرة "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" كما هي شائعة في مفهومها المباشر على بساط البحث؟. وعلى هذا يغدو السؤال المركّب التالي ضروريًا: إذا كان النسخ قد حدث فعلًا بما فيه من تبديل الآيات وإلغاء الأخرى، فكيف يمكن القول بـنصٍّ ثابتٍ وأزليٍ يعيش فوق الأحداث والوقائع وله وجوده الأزلي في اللّوح المحفوظ؟. ثمّ إذا كان هنالك إقرارٌ بالنسخ فما الذي بقي في المصحف العثماني المكتوب: المحكم أم المتشابه؟"([18]).

إنّ هذا المنهج في التشكيك وإثارة الشبهات هو نفس المنهج الذي سار عليه الحداثي حسن حنفي أيضًا، والذي دعا إلى إعادة النظر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]،  الشيء الذي أوقعه في القول بأنّ الله تعالى لم يتكفّل بحفظ كتابه العظيم؛ وهو ما نقرؤه في تعليقه على كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" لاسبينوزا، الذي قام بترجمته والتعليق على محتوياته، يقول: "يغالي البعض وأكثرهم من اللاهوتيين المحافظين الذين يدّعون أنّ الله قد حفظ كتابه من التغيير والتبديل وأنّ العناية الإلهية هي الحافظة للنصوص، ومن ثمّ فلا داعي هناك لتطبيق قواعد المنهج التاريخي على النصوص الدينية وإقامة نقد تاريخي للكتب المقدّسة، فـ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ [الحجر: 9]، هي نظريةٌ لاهوتيةٌ صرفةٌ تهرب من النقد وتلجأ للسلطة الإلهية، وهي شبيهةٌ بالصدق الإلهي عند ديكارت فيما يتعلّق بالمعرفة الإنسانية، وقد يكون معنى الآية هو حفظ المعنى، وحفظ تطبيق المعنى في الواقع، لا حفظ النصّ الحــرفي المدوّن، فذلك ما يعتبر به التغيير والتحريــف والتبديل، وهذا ما يتّهم به القرآن أهل الكتاب، ويؤيّده النقــد التاريخي للكتــب المقدّسة"([19]).

والقول بتاريخية النصّ القرآني عند طيب تيزيني أوقعه في القول بخلق القرآن، تلك الفتنة التي ظهرت في القرن الثالث الهجري، حيث أنكر المعتزلة صفات المعاني كلّها، ومنها صفة الكلام، وذهبوا إلى أنّه تعالى عالِمٌ من غير أن يتصف بشيء اسمه العلم، وقادرٌ دون أن تسند إليه صفة اسمها القدرة، وعلى هذا بنوا قولهم بأنّ القرآن مخلوقٌ لله تعالى، وخاضوا في هذه المسألة في العصر العباسي خوضًا شديدًا، أمّا في العصر الحديث فقد سار أصحاب الدراسات المعاصرة للقرآن الكريم على نهجهم، مؤكّدين على أنّ المعتزلة بقولهم هذا كانوا يهدفون من ورائه إلى ربط آياته بالواقع وسيلانها مع التاريخ، فعارضهم في ذلك أكثر العلماء وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، فقالوا: إنّ القرآن أزليٌّ غير مخلوق، وهو قولٌ يعني فصل القرآن عن الواقع وفصمه من التاريخ كما يرى أصحاب الدراسات الحداثية.

إنّ القول بخلق القرآن متابعةً للمعتزلة جعل طيب تيزيني يؤكّد على ضرورة إعادة قراءة النصّ القرآني وفق ما تقتضيه الأحداث الراهنة لا وفق ما وقع في زمن النبوة؛ يقول: "ومن هنا كانت الأهمية الملفتة لمحاولة التيار الاعتزالي في ذلك المجتمع النظر في الكلام (النصّ) القرآني على أنّه مخلوق، ذلك لأنّ مثل هذا النظر يتيح للباحث والفقيه والمؤمن العادي جميعًا وكلٌّ من موقعه وفي ضوء إملاءاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها أن يتصرّفوا بالكلام المذكور بمثابة بنيةٍ تاريخيةٍ مفتوحةٍ تخضع لاتّجاهات التغيُّر والتبدّل التي تطرأ على تلك الوضعيات الاجتماعية المشخّصة"([20]).

ويقول في موضع آخر: " إذا كان القرآن قد أُنزل على النبي آيةً آيةً محقّقًا بذلك عملية التطابق الضرورية بينه وبين الواقع البشري الموجّه إليه، فكيف يمكن تحقيق المواءمة بين ذلك وبين كون القرآن أُنزل جملةً واحدةً إلى سماء الدنيا، أي على نحوٍ مغايرٍ للنزول المنجّم؟ لعلّ هذا التساؤل يحيلنا ثانيةً إلى مسألة العلاقة بين القرآن واللوح المحفوظ، ووجه العودة هنا يقوم على أنّ هذه العلاقة ذات بُعدٍ تابعي، يكون القرآن بمقتضاها تابعًا للّوح المحفوظ، وعلى هذا يغدو القرآن مخلوقًا غير أزلي، أي قائمًا على كونه ذا مصدرٍ بشريٍ محمّدي، وقد ورد في سياقٍ سابقٍ أنّ هذه المحاولة التأويلية ترتدّ بأحد مصادرها الكبرى إلى المعتزلة"([21]).

إنّ إثارة طيب تيزيني لمسألة خلق القرآن والتأكيد عليها هو اتّباعٌ لأوهام المعتزلة الذين أوقعهم في القول بها "تحميل العقل أكثر من طاقته في هذه المسائل، وهو مسلكهم الذي عُرفوا به، فالمحال في تعدّد القدماء أن تتعدّد الذوات القديمة لا أن تتعدّد صفاتٌ لذاتٍ واحدة، والعالِمية ليست أكثر من إسناد صفة العلم نفسه إلى الله، فليس هناك محتاجٌ ومحتاجٌ إليه، وحسبنا دليلًا في هذا الصّدد أنّ الله تعالى قد أسند إلى ذاته صفة العلم إذ قال: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾ [البقرة: 255] وطبيعي أن يجزم العقل بقياس صفاته الأخرى على هذه الصفة، فيسند إليه صفة الحياة والقدرة والسمع..."([22]).

لقد غالى طيب تيزيني في دراسته للقرآن الكريم؛ فبعد أن قال بتاريخية النصّ القرآني، وأكّد على مسألة خلق القرآن التي قال بها قبله المعتزلة، ذهب هذه المرّة إلى أنّ القرآن الكريم نهل من كتب السابقين (التوراة والإنجيل)؛ يقول: "أمّا النظر إلى النصّ القرآني على أنّه فرعٌ فيفصح عن نفسه من موقع إقرار هذا النصّ بأنّه أتى متمّمًا لما سبقه من نصوص دينيةٍ وأفكارٍ إصلاحيةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ وغيرها، تحدّرت من مراحل سابقةٍ عليه أو ربّما معاصرةٍ له، فبالإضافة إلى الكتب المقدّسة وغيرها، الممثّلة خصوصًا بالتّوراة والأناجيل، حتّى من موقع قول القرآن بأنّها زوّرت، كان هنالك الكثير ممّا قدّمته أخلاق الجاهلية ما كان جديرًا بأن يُتبنّى ويحافَظ عليه"([23]).

ويدّعي طيب تيزيني أيضًا أنّ القرآن الكريم تأثّر بالموروث الإغريقي والفارسي والهندي والصيني؛ "فالموروث الإغريقي الهليني والفارسي والهندي والصيني، وغيره، كان ذا حضورٍ ملحوظٍ في الجزيرة العربية كلّها، وربّما بصورةٍ خاصّةٍ في مكّة، خلال القرن السادس والقرن السابع، بل يمكن القول إنّ النصّ القرآني نفسه كان قد تأثّر بذلك الموروث"([24]).

إنّ قول طيب تيزيني بأنّ القرآن الكريم تأثّر بكتب من كانوا قبله سبقه إليه المستشرقون أيضًا؛ فقد ورد في الموسوعة البريطانية أنّ "المستشرقين الذين قاموا بتحليل محتويات القرآن استخلصوا بأنّ كثيرًا من المادّة القصصية والمذكورة فيها أشخاصٌ وحوادث في التوراة، هي غير مشتقّة من التوراة بل من مصادر نصرانية ويهودية متأخّرة، كما أنّ أوصاف يوم القيامة والجنّة هي موضوعات تتّفق مع تعاليم الكنيسة السّريانية المعاصرة، وأنّ اعتماد محمّد على نقل هذه المعلومات لم يكن اعتمادًا حرفيًا، بل أخذ من آثار شفهية"([25]).

ويقول جولد زيهر في هذا المقام أيضًا: "إنّ ما كان يبشّر به محمّد خاصًّا بالدّار الآخرة، ليس إلا مجموعة موارد استقاها بصراحةٍ من الخارج يقينًا، وأقام عليها هذا التبشير، لقد أفاد من تاريخ العهد القديم - وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء - ليذكّر على سبيل الإنذار والتمثيل، بمصير الأمم السالفة الذين سَخِروا من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم، ووقفوا في طريقهم"([26]).

وفي ختام هذه الدراسة، بقي أن نشير إلى أنّ طيب تيزيني لم يرد أن يكون نشازًا في زمرة الحداثيين الدارسين لكتاب الله تعالى؛ وذلك بعد أن أدلى بدلوه معتبرًا القرآن الكريم تشوبه مجموعةٌ من النقائص كما قالوا؛ فبعد أن ذكر أنّ آيات القرآن الكريم وسوره متعارضةٌ في كثير من الأحيان - وكما أشرنا سابقًا - ذهب هذه المرّة إلى وجود زيادةٍ ونقصانٍ كبيرَين في محتويات القرآن الكريم، بل زعم أنّ كتّابه في العصور الأولى تدخّلوا في صياغته الأخيرة؛ يقول: "أمّا الناتج الثاني فقد تجسّد في الثغرات الكبرى والصغرى التي ألمّت بمتون القرآن، حين بدئ في فترات مختلفة بجمعها نصًّا مكتوبًا، وقد يتّضح هذا الأمر إذا وضعنا في الحسبان جموع القرّاء والمحدّثين والحفظة الذين سقطوا في المعارك الأولى بين المسلمين وخصومهم، وخصوصًا في تلك التي دارت ضدّ المرتدّين بعد موت محمّد، ومن الأهمية الخاصّة بمكانٍ ملاحظة أنّ عملية جمع القرآن تعرّضت بحسب بعض الكتابات الإسلامية، ومنذ بدئها تقريبًا لاختراقات مَتنيَّةٍ لعلّها لم تكن عارضةً ولا طفيفة"([27]).

ويقول في مقام آخر: "ولكنّنا قبل ذلك كلّه، يتعيّن علينا أن نحيط أو بحدّ أدنى أن نلمّ بالإشكالات والصعوبات التي اعترضت عملية جمع النصّ القرآني وضبطه وتوثيقه، تلك العملية التي كانت بمثابة أقنية قادت إلى التدخل فيه، ربما عمقًا وسطحًا"([28]). 

ومن النواقص أو الثغرات التي يقف عندها طيب تيزيني حسب زعمه في جمع القرآن، والتي أدّت إلى الزيادة أو النقصان فيه، ما ذكره معلِّقا على قول زيد بن ثابت: "فتتبّعتُ القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال، حتّى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره": "إنّ زيد بن ثابت هنا يعلن أنّه أقرَّ ما وجده عند أبي خزيمة الأنصاري من القرآن، بالرغم من أنّه لم يجد ذلك عند غيره، أي إنّ زيدًا انطلق في هذا الإقرار بإمكانية منح المصداقية الوثيقية لمحدِّثٍ ما، دون شاهد يشاركه الرأي فيما يقول به، فإذا كان ذلك ممكنًا، فلماذا رفض زيد أخْذ ما كان لدى عمر بن الخطاب، وهو آية الرجم، تلك الآية التي كانت بحوزته هو وحده؟"([29]).

والأدهى من هذا كلّه هو زعم طيب تيزيني أنّ الأحداث السياسية  وما شاكلها تدخّلت مباشرةً في زيادة بعض الآيات أو السور، كما تدخّلت في حذف آياتٍ وسورٍ أخرى؛ وهو ما نقرؤه في قوله: "وإذا كان ما قدمناه حتى الآن من نماذج لعملية اختراق المتن القرآني، يقوم على إنقاص آيةٍ أو زيادة أخرى، فإنّ الأمر يغدو أكثر جدّيةً واتّساعًا حين يتعلق بإنقاص سورةٍ قرآنيةٍ أو أكثر وبزيادة سورةٍ قرآنيةٍ أو أكثر؛ ممّا يضع الباحث المدقّق أمام حالةٍ نموذجيةٍ من النصوص المغيّبة وما كمن وراءها من خلفياتٍ مركّبةٍ ومعقّدةٍ من الصراعات بين الاتّجاهات والتيارات والمذاهب السياسية والدينية في حينه"([30]). ويقول أيضًا مؤكّدًا على تدخّل السلطة السياسية في جمع القرآن ممّا ترتّب عنه زيادةُ آياتٍ أو نقصانها: "فالسلطة السياسية والدينية والأيديولوجية، بعثمان على رأسها، عملت جهارًا ودون غمغمةٍ على صوغ شرعيتها النصية إضافةً إلى مشروعيتها الاجتماعية، من خلال الاستحواذ الصريح على النصّ الديني الأمّ كاملًا في يدها، معلنةً بذلك توافقًا بين هيمنتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهيمنتها السياسية والدينية والأيديولوجية، وإذا ما انطلقنا الآن من تلك الوضعية التاريخية باتجاه مسألة التكليف بجمع القرآن من قبل عثمان، فإنّ المشاكل المترتّبة على إنقاص القرآن وزيادته تغدو قابلةً للفهم، على الأقلّ في بعض أوجهها، فقد تحوّلت الخصومة السياسية والمالية إلى صيغةٍ أيديولوجيةٍ، بدت وكأنّها سيّدة الموقف"([31]).

ويبلغ طيب تيزيني الغاية القصوى في إثارة الشبهات، فيزعم أنّ اختيار عثمان لزيد بن ثابت لجمع القرآن كان لأسبابٍ ماليةٍ واقتصادية، وهذا سرّ إبعاده لابن مسعود؛ يقول في هذا الصدّد: "وإذا أضفنا إلى ذلك ما يؤكّد الروابط التي توحّد بين عثمان وزيد على صعيد الثروة الاقتصادية وبالتالي على صعيد الوضعية السوسيو طبقية؛ فإنّ الأمر يفصِح عن مزيدٍ من نقاط الضوء التي تسمح بتفحّص العلاقة الصدامية بين عثمان وابن مسعود، والآن جنبًا إلى جنبٍ مع تلك المعطيات السوسيو طبقية والاقتصادية وما رافقها واخترقها وواشجها من منظومةٍ أخلاقيةٍ قيميةٍ ودينيةٍ وسياسيةٍ في حياة الفريقين المذكورين، نضع يدنا على مكمنٍ آخر فصيحٍ وحاسمٍ من مكامن جدلية السلطة والثقافة"([32]).

وفي ختام دراسته للقرآن الكريم، خلُص طيب تيزيني إلى أنّه "لا يجب الاعتقاد أنّ كتابة القرآن التي تمّت بأمرٍ من الخليفة عثمان قد ظلت دون تغيير، وهذه التغييرات تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية: الأخطاء التي ارتكبها الناسخون، ودروس النصّ المقدّس القديمـة التي احتفــظ بها القرّاء والمرتلون المحترفون في ذاكرتهم رغم كلّ شي‌ء، وعدم كفاية ووضوح الكتابة العربية التي تختلط فيها بعض الحروف بسهولة"([33]).

لقد زعم طيب تيزيني أنّ النصّ القرآني تمّ التلاعب به بالزيادة أو النقصان على حسب هوى السلطة السياسية الحاكمة آنذاك، وعلى حسب هوى النسّاخ والحفّاظ، ويكفينا في هذا المقام أن نردّ عليه بقول المستشرق لوبلوا (Lebloit) صاحب كتاب "القرآن والتوراة" (Le Cran et La Bible Hébraïque) الذي قال: "إنّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يدٍ ليدٍ حتّى وصل إلينا بدون تحريف، وقد حُفِظ بعنايةٍ شديدةٍ بحيث لم يطرأ عليه أيّ تغييرٍ يُذكَر، بل نستطيع القول إنّه لم يطرأ عليه أيّ تغييرٍ على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة [...] فلم يوجد إلا قرآنٌ واحدٌ لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النصّ المقبول من الجميع حتّى اليوم يعدّ أكبر حجّةٍ ودليلٍ على صحّة النصّ المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى الخليفة المنكوب عثمان الذي مات مقتولًا"([34]).

لقد اهتم طيب تيزيني في مشروعه "الفكري" بتقديم ما اعتبره رؤيةً أو قراءةً جديدةً للنصّ القرآني، منطلقًا من مفاهيم الثقافة الغربية الحديثة، ومُسقطًا مقولاتها على دستور هذه الأمّة، ولقد تناول هذا الباحث موضوعات علوم القرآن التي تقرّرت أصولها ومُحّصت مسائلها ليجيء في الأخير بكتابٍ أراد به خلخلة ما اتّفق عليه علماء المسلمين، عن طريق إثارة الشكوك والشبهات، مستنسخًا لآراء استشراقيةٍ قديمةٍ تطرّق لبحثها العلماء وأماطوا اللثام عن الالتباس أو الاشتباه فيها، وبيّنوا الحقّ لمن يريده ويطلبه.

------------------------------

الدكتور سعيد عبيدي : أستاذ باحث في مجال حوار الحضارات ومقارنة الأديان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات السامية ومقارنة الأديان من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، عضو مختبر الدراسات الدينية والعلوم المعرفية والاجتماعية، فاعل جمعوي وحاصل على مجموعة من الشواهد التقديرية بفعل المشاركة في عدد من الندوات والملتقيات الأدبية والفنية.

([1]) طيب تيزيني: مفكّرٌ سوري من مواليد 1934، أستاذ العلوم السياسية والفلسفية في جامعة دمشق، من أنصار الفكر القومي الماركسي، جرى اختياره كواحدٍ من مئة فيلسوفٍ في العالم للقرن العشرين عام 1998 من قبل مؤسـسة كونكورديا (concordia) الفلسفية الألمانية الفرنسية. ولد في مدينة حمص في سورية، وغادر إلى تركيا بعد أن أنهى دراسته الأولية، ومنها إلى بريطانيا ثم إلى ألمانيا لينهي دراسته للفلسـفة فيها ويحصل على شهادة الدكتوراه، ثم الأستاذية في العلوم الفلسفية. صدر أول كتابٍ له باللغة الألمانية عام 1972 بعنوان "تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة"، ثم تتالت أعماله ومن أهمها باللغة العربية "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط"، "روجيه غارودي بعد الصمت"، "حول نظريةٍ مقترحةٍ في قضية التراث العربي"،" الفكر العربي في بواكيره و آفاقه الأولى"، "من يهوه إلى الله"، "النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة"،"من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة"، "في السجال الفكري الراهن"، "فصول في الفكر السياسي العربي"، "من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي"، "من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني"، "بيان في النهضة والتنوير العربي"، "حول مشـكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث"، كما نشر مئات البحوث والدراسات حول قضايا الفكر العربي والعالمي، وشارك في العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية والعالمية.

([2]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، دار الينابيع للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1997، ص 363.

([3]) نفسه، ص 239.

([4]) نفسه، ص 241.

([5]) نفسه، ص 295.

([6]) انظر: جعفر شيخ إدريس، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس، 1985، ج 1، ص 224.

([7]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 213-214.

([8]) نفسه، ص 249-250.

([9]) أحمد محمد الفاضل، الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن: دراسة ونقد، مركز الناقد الثقافي، دمشق، الطبعة الأولى، 2008، ص 295.

([10]) الطبلاوي محمود سعد، الإسلام وجذور التحريف، مكتبة الأمانة، شبرا، الطبعة الأولى، 1992، ص 89.

([11]) فضل حسن عباس، قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، دار الفتح، عمان، الطبعة الأولى، 2000، ص 99.

([12]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 395-396.

([13]) انظر مثلًا: مفهوم النصّ لنصر حامد أبو زيد (65-67-70-71)، والقرآن من التفسير بالموروث لمحمد أركون (84-98)، والفكر الإسلامي نقد واجتهاد لمحمد أركون أيضًا (99)، ومن العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي (4/233).

([14]) هشام جعيط، الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 2000، ص 18

([15]) نفسه، ص 69.

([16]) ماضي محمود، الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، دار الدعوة للطبع والنشر، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1996، ص: 123.

([17]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 254.

([18]) نفسه، ص 254.

([19]) اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 22.

([20]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 298-299.

([21]) نفسه، ص 371.

([22]) أحمد محمد الفاضل، الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن: دراسة ونقد، ص 346.

([23]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 154-155.

([24]) نفسه، ص 80.

([25]) فضل حسن عباس، قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، ص 188.

([26]) عجيل جاسم النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 1984، ص 32.

([27]) طيب تيزيني، النصّ القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص 147.

([28]) نفسه، ص 7.

([29]) نفسه، ص 406.

([30]) نفسه، ص 395.

([31]) نفسه، ص 401-402.

([32]) نفسه، ص 400-401.

([33]) نفسه، ص 63-64.

([34]) محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن الكريم، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990، ص 40.