البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

خدمات الاستعراب الاسباني في مجال الأدب (الأدب الأندلسي أنموذجاً)

الباحث :  أ. د. جميل حمداوي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  17
السنة :  السنة الخامسة شتاء 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 18 / 2019
عدد زيارات البحث :  2135
تحميل  ( 599.753 KB )
توطئة:
لقد قدم الاستعراب الإسباني للأدب العربي بالأندلس، إلى يومنا هذا، خدمات  كبيرة وجليلة. ولا يمكن  لأيِّ دارسٍ عربيٍّ مسلمٍ -بأيِّ حالٍ من الأحوال- إنكار ذلك تحت أيِّ مبررٍ ذاتيٍّ، أو مسوغٍ علميٍّ، أو رغبةٍ في المناظرة والجدل، أو غض البصر عن تلك الجهود الجبارة التي قام بها كبار المستعربين الإسبان على مر السنين، على الرغم من تحامل الكثيرين على ذلك الأدب. فقد قام هذا الاستعراب -فعلا- بجمع المخطوطات الأدبية الأندلسية شعراً ونثراً، وتوثيقها متناً وتدويناً وتحقيقاً وأرشفةً، وتأريخ معطياتها سياقاً وتحقيباً ومرجعاً، وترجمتها إلى اللغة الإسبانية في مختلف لهجاتها المتنوعة، ودراستها مضموناً وشكلاً ووظيفةً من أجل تحديد تطور الأدب الأندلسي، ورصد مجمل خصائصه الدلالية والفنية والجمالية، وتبيان مختلف سياقاته التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والنفسية والحضارية. علاوةً على ذلك،  فقد خُصِّص للأدب الأندلسي بإسبانيا مكتباتٌ عامةٌ وخاصةٌ، ومعاهدُ متخصصةٌ، وكَرَاسِ جامعيةٌ. كما صدرت صحفٌ ومجلاتٌ تُعنى بالأدب الأندلسي تأريخاً، وتصنيفاً، ونقداً، وبحثاً.
وأقول بكل موضوعيةٍ علميةٍ بأنه لولا الاستعراب الإسباني لما عرفنا الكثير عن الأدب الأندلسي شعراً ونثراً، ولما عرفنا الكثير عن الدواوين الشعرية ومبدعيها المغمورين والمشهورين على حدٍّ سواءٍ، ولما كان لدينا إلمامٌ كافٍ بفن الموشحات والزجل بشكلٍ محكمٍ ومتقنٍ.
إذاً، ما الخدمات الجليلة التي قدمها الاستعراب الإسباني إلى الأدب الأندلسي شعراً ونثراً؟ وما أهم المراحل التي قطعها هذا الاستعراب في دراسته للأدب الأندلسي في شتى فنونه وأنواعه وأنماطه؟ ومن هم أهم المستعربين الإسبان الذين اهتموا  بالأدب الأندلسي دراسةً، وبحثاً، وتنقيباً، وجمعاً، وتوثيقاً، ونقداً؟
تلكم هي أهم الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في موضوعنا هذا.

المبحث الأول:  مراحل الاهتمام بالأدب الأندلسي
اهتم المستعربون الإسبان بالأدب الأندلسي جمعاً وترجمةً وتوثيقاً وتحقيباً وتأريخاً وتصنيفاً ودراسةً ونقداً وتقويماً منذ القرن الثالث عشر الميلادي (1227م)، وبالضبط مع تأسيس جامعة صلمنكة(Salamanca). ولم يكن هناك اهتمامٌ علميٌّ دقيقٌ بهذا الأدب نشراً ودرساً وفحصاً إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، مع مجموعةٍ من المستعربين الإسبان المتمكنين من اللغة العربية وآدابها وثقافتها، واستمر ذلك الاهتمام إلى يومنا هذا عبر الدرس الأكاديمي، ومختلف الندوات واللقاءات والمؤتمرات العلمية.
وقد يكون ذلك الاهتمام راجعاً إلى أسباب استعماريةٍ واستشراقيةٍ، أو إلى أسبابٍ  دينيةٍ (التبشير والتنصير)، أو إلى أسباب شخصيةٍ ومزاجيةٍ، أو إلى أسبابٍ علميةٍ موضوعيةٍ بحتةٍ، تتمثل في جمع التراث الأندلسي والإسباني متناً وترجمةً وتوثيقاً ودراسةً، ورصد مختلف علاقات التأثير والتأثر بين الإنسان العربي المسلم والإنسان الإسباني المسيحي، ورصد مواطن الائتلاف والاختلاف، وتحديد مواطن القوة والضعف في هذه العلاقات ذات الطابع الثقافي، والحضاري، والإثني، والديني.
ومن هنا، فقد بدأ الاهتمام بالأدب الأندلسي بإسبانيا في وقتٍ مبكّرٍ، بتأسيس كَرَاسٍ جامعيةٍ بصلمنكة، وإشبيلية، وبالما، وليريدا، وبرشلونة، وبلنسية، ومدريد، وغرناطة، وأوبيدو، ولاغونة، وسانتياغو دي كومبوستيلا. ولا نَنْسَ كذلك ماقام به الملك كارلوس الثالث (1716-1788م) حينما وسّع المكتبة الملكية، ونظم مكتبة ديل الأسكوريال(Biblioteca del Escorial) التي كان قد أنشأها الملك فيليب الثاني سنة 1557م[1]. وتضم هذه المكتبة وحدها 1900 مخطوطٍ عربيٍّ، وأكثر من 183 مجلداً، وقد جمعت هذه الكتب والمخطوطات من بقايا المكتبة الأندلسية الإسلامية بغرناطة، ومكتبة مولاي زيدان أحد سلاطين المغرب، «بعد أن اضطره أبو مجلى إلى الفرار بكنوزه وكتبه إلى آسفي، ثم إلى أغادير، حيث رفض الربان إفراغ المركب مالم يتقاض أجره، وقدره 36.000 فرنك. وغادر المركب أغادير إلى مرسيليا، فاستولى القرصان الإسبانيعليه، ولما نمي خبره إلى الملك فيليب الثاني أمر أن توضع المخطوطات في مكتبة الأسكوريال، وقد بلغت ثلاثة آلاف مخطوطٍ عربيٍّ، على ظهر الصفحة الأولى من كل منها عبارةُ تُنص على ملكية السلاطين السعديين إياه. وفي عام 1671م، شب حريق في الإسكوريال التهم جزءا كبيراً من كتبها، ولم ينج من العربية سوى 1900 مخطوطٍ»[2].
وقد خضعت مخطوطات المكتبة للتجليد  والفهرسة والتصنيف الموضوعاتي من قبل مجموعة من المستعربين المسيحيين، كالماروني اللبناني  الأب ميخائيل الغزيري، وهرتويج ديرنبورج، وليفي بروفنسال، والأب موراتا، والدكتور رينو...
علاوةً على ذلك، فقد استفاد الطلبة المستعربون الإسبان من المكتبات العامة والخاصة الغنية بمختلف المخطوطات العربية التي لها علاقةٌ وطيدةٌ بالأدب الأندلسي. وبعد ذلك، أنشئت في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وإلى يومنا هذا، معاهدُ ومدارسُ ومراكزُ وأقسامٌ للبحث في الأدب الأندلسي، ودراسة حضارة العرب المسلمين بإسبانيا، في ضوء مقارباتٍ علميةٍ وأكاديميةٍ متنوعةٍ، سواءً أكانت كلاسيكيةً أم حداثيةً. وأنشئت كذلك متاحفُ ومطابعُ  ومجلاتٌ تهتم بالاستعراب الإسباني في مختلف تجلياته ومظاهره. ومن أهم هذه المجلات مجلة أفريقيا، ومجلة الأندلس، ومجلة تمودا، ومجلة المرآة...، ونشرت كذلك المجموعات العربية التي تعنى بحضارة الأندلس تأريخاً، وأدباً، وثقافةً، وفكراً، وعقيدةً، وفلسفةً.

المبحث الثاني: كيف خدم الاستعراب الإسباني الأدب الأندلسي؟
أسدى الاستعراب الإسباني خدماتٍ جليلةً إلى الأدب الأندلسي بجمع المخطوطات والمتون الأدبية تحقيقاً، وتوثيقاً، وأرشفةً. كما قام المستعربون الإسبان بترجمة الأدب الأندلسي إلى اللغة الإسبانية ومختلف لهجاتها المحلية، مع التعريف بهذا الأدب تأريخاً وتحقيباً وسياقاً، فأردفوه بشرح النصوص الأدبية شعراً ونثراً، ودراستها دلالةً وفنّاً ومقصديّةً، والعمل على تحقيق الدواوين الشعرية، والتعريف بأعلامها ومبدعيها، دون غض الطرف عن الخدمات الجبارة التي قام بها هؤلاء المستعربون الإسبان للتعريف بالموشحات الأندلسية، وتقديم أزجال ابن قزمان وغيره من الشعراء...
ويتجسد هذا الاهتمام الاستعرابي الجبار -إجرائيًّا وعمليًّا- في تحقيق المخطوطات، وجمع أمهات المصادر، وفهرستها وتجليدها وتصنيفها،  ونشر الكتب المحققة وغير المحققة، وطبعها طبعاتٍ عامةً ليطلع عليها الجميع. كما أثري الأدب الأندلسي وأغني  بنشر المقالات والأبحاث والدراسات في الصحف والمجلات الإسبانيةٍ والغربية والعربية والعالمية، أو بتدريسه في مؤسساتٍ جامعيةٍ ومعاهدَ إسبانيةٍ قد خصصته بكراسٍ علميةٍ عليا. دون أن ننسى المؤتمرات والندوات واللقاءات التي كانت تُعنى بالبحث في الأدب الأندلسي شعراً ونثراً وتأريخاً.

المبحث الثالث:  أهم المستعربين الإسبان الذين درسوا الأدب الأندلسي
ثمة مجموعةٌ من المستعربين الإسبان الذين خدموا الأدب الأندلسي، بشكلٍ من الأشكال، بالتحقيق العلمي، وجمع المتون، وفحص النصوص عن طريق التحليل، والدراسة، والترجمة، والمقارنة، والتأريخ، والتحقيب، والنقد، والتقويم، والترجيح. ومن بين هؤلاء المستعربين الإسبان الأسماء التالية:
1 -  خوان إي فاليرا (Juan Y. Valera)
اهتم خوان فاليرا( 1824 - 1905م) بالشعر الأندلسي، إذ ترجم إلى اللغة الإسبانية كتاب (شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية) للمستشرق الألماني أدولف فريدريك فون شاك (Adolf Friedrich Von Schak) في ثلاثة أجزاء. وجاء هذا الكتاب ليؤكد -فعلا- الأثر الجلي للثقافة العربية  في الحضارة الأوروبية بصفةٍ عامةٍ، والحضارة الإسبانية بصفةٍ خاصةٍ. ومن مترجمات فاليرا في هذا الكتاب قصائد الطرطوشي، وقصائد الرندي، وقصائد علي بن سعيد.
2 -  فرنانديث إي غونزاليث فرانشيسكو (Fernandez Y Gonzales, F)
ركز فرنانديث إي غونزاليث فرانشيسكو (1833م -؟)، ضمن اهتماماته بالأدب الأندلسي، على السرديات الأندلسية بالنشر، والدراسة، والبحث. فقد نشر، على سبيل الخصوص، قصة (زياد الكناني) لمؤلفٍ أندلسيٍّ مجهولٍ اعتماداً على مخطوطٍ في مكتبة الأسكوريال سنة 1882م.
3 - ريبيرا إي طاراغو (Ribera Y Tarrago)
اهتم ريبيرا طراغو (1858-1934م) بالأدب الأندلسي اهتماما لافتاً للانتباه، لا سيما شعر التروبادور أو شعر المنشدين. فقد أثبت، في بحثه عن شعر ابن قزمان، أن الشعر الغنائي الذي عرف بفرنسا باسم الشعراء المتجولين، أو الشعراء التروبادور، وانتقل منه إلى ألمانيا، تعود أصوله إلى شعر الزجل الذي انتشر أيما انتشار في التربة الأندلسية[3].
ومن أهم أعماله القيمة في مجال الأدب الأندلسي( الملاحم الأندلسية) الصادرة سنة 1915م بمدريد، و( ديوان ابن قزمان)، وقد نشره بمدريد سنة 1922م، و( موسيقى الأندلس والشعراء الجوالون)، وقد نشره الباحث بمدريد سنة 1925م...
4 - ميننديث بيدال (Menendez Pidal)
ولد ميننديث بيدال سنة 1868م بلاكورونة، واهتم بالأدب الأندلسي نشراً، وطبعاً، وبحثاً، ودراسةً، وتنقيباً، وتأريخاً. ومن أهم أبحاثه القيمة في هذا المجال( ملحمة السيد) التي نشرت بمدريد سنة 1908م، وكتاب( الشعراء المنشدون) الصادر سنة 1924م بمدريد. ونشر أيضا مجموعةً من قصائد العصر الوسيط بمدريد سنة 1928م، واعتنى كذلك بالمقارنة بين الشعر العربي والشعر الأوروبي.
5 - بونس بويغيس (Pons Boigues)
اهتم بونس بويغيس(1861-1899م) بالأدب الأندلسي حين انضمامه إلى هيئة المحفوظات والمكتبات سنة 1886م. ومن ثم، بدأ في البحث والدرس والنشر، وقد جمع قصة حي بن يقظان، فترجمها إلى اللغة الإسبانية، ونقل إلى هذه اللغة كذلك مقتطفاتٍ من قصيدة ابن عبدون التي ترجمها فانيان إلى الفرنسية[4].
 6 - غو نثاليث بالينثيا(Gonzalez palencia)
 كانت لغونثاليث بالينثيا (1889-1949م) عنايةٌ خاصةٌ بالأدب الأندلسي، كما يظهر ذلك واضحاً في كتابه (في تاريخ الأدب العربي الإسباني) الصادر سنة 1928م، وقد نقله إلى العربية الدكتور حسين مؤنس بعنوان (تاريخ الفكر الأندلسي) سنة 1955م. وقد كتب غونثاليث بالينثيا أبحاثاً قيمةً ودراساتٍ عدةً في الاستعراب الأندلسي تأريخاً، وأدباً، وحضارةً، ولغةً، وثقافةً.
ومن أهم آثاره البارزة (الإسلام والشعراء المنشدون)، وقد نشره بمجلة الأندلس سنة 1933م. وترجم أيضا ( قصة حي بن يقظان) لابن طفيل إلى اللغة الإسبانية، ونشرت هذه القصة بمدريد سنة 1934م...
7 - إمليو غارثيا غوميث(Emilio Garcias Gomez)
 اهتم إميليو غارثيا غوميث (1905-؟) كثيراً بالأدب الأندلسي تأريخاً وترجمةً وتحقيقاً وتعريفاً، وقد كان أكثر المستعربين الإسبان مراكمةً ونشراً في مجال الأدب الأندلسي شعراً ونثراً، حيث اتخذ من مخطوطٍ قديمٍ لابن سعيد أساساً لدراسة الشعر العربي الإسباني. واهتم أيضا بروايةٍ عربيةٍ، وهي مصدر مشتركٌ لابن طفيل وجراثيان. وجمع منتخباتٍ من الشعر العربي الأندلسي، وترجم إلى الإسبانية أشعار كلٍّ من ابن زيدون، وابن عمار، والمعتمد بن عباد، وأبي الفرج الجياني. ونشر كذلك كتاب (الإشارة بمحاسن الأندلسيين) متناً وترجمةً إسبانيةً، ونشر (مرثية الإسلام في الأندلس) للصفندي.
وله كذلك دراساتٌ عن الخرجات والموشحات، وترجم إلى الإسبانية ديوان أبي إسحق الألبيري، ورسالة الصفندي، وطوق الحمامة لابن حزم، وخمسة شعراء مسلمين. وصنف كتاباً بعنوان (الموجز في تاريخ الشعر العربي الأندلسي)، وكتاباً عن ابن الزقاق، ومختاراتٍ من شعره متناً وترجمةً. ونشر هذا المستعرب كثيراً من الدراسات والمقالات والأبحاث حول الأدب الأندلسي، وخاصةً في (مجلة الأندلس)، ومجلة الدراسات الإسلامية، وحوليات معهد الدراسات الشرقية، ومجلة أرابيكا...  منذ ثلاثينيات القرن العشرين[5].
ومن أهم كتبه (الشعر الأندلسي) الذي ترجمه عن الإسبانية الدكتور حسين مؤنس، ويتناول فيه هذا المستعرب تطور الشعر الأندلسي في عصر الإمارتين وعصر الخلافة، بالتركيز على عصر الطوائف، وعصر المرابطين، وعصر الموحدين، مع تبيان خصائص الشعر الأندلسي الموضوعية والفنية، كتطرق هذا الشعر إلى  الخمر، والحب، والجمال، والوصف، والتشبيه، دون نسيان فنون هذا الشعر وأغراضه، والتعرض لشعراء غرب الأندلس ووسطه وشرقه[6].
ولا نَنْسَ كذلك كتابه القيم الذي ترجمه الدكتور الطاهر أحمد مكي بعنوان (مع شعراء الأندلس والمتنبي- سيرٌ ودراساتٌ-)[7]، وقد تناول فيه إميليو غرسيا غوميث  مجموعةً من المحاور بالدرس والفحص، مثل: المتنبي شاعر العرب الأكبر، والشاعر الطليق وديوانه، وأبو إسحق الألبيري فقيهٌ إسبانيٌّ، وابن الزقاق شاعر الطبيعة، وابن قزمان صوتٌ في الشارع، وابن زمرك شاعر الحمراء.
ويتبين لنا أن إميليو غارثيا غوميث  له باعٌ كبيرٌ في مجال اللغة العربية وآدابها، وإلمامٌ منقطعُ النظير بالشعر الأندلسي وأحواله السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية، والأدبية، والثقافية. وفي هذا السياق، يقول الدكتور حسين مؤنس  في حقه، وفي حق كتابه النفيس: «هذه صفحاتٌ عن الشعر الأندلسي، كتبها عالمٌ اجتمعت له خصائصُ أربعٌ تجعله أجدر الناس بفهم هذا الشعر والقول فيه: أولاها علمٌ واسعٌ باللغة العربية، وتمكنٌ نادرٌ من أصولها وخصائصها وتاريخها؛ وثانيتها إحساسٌ شعريٌّ صادقٌ وإدراكٌ فنيٌّ دقيقٌ، فهو شاعرٌ يقول الشعر في لغته الإسبانية، وناقدٌ قادرٌ على الحكم على الشعر والنثر؛ وثالثتها منهجٌ علميٌّ دقيقٌ اكتمل له بطول الدرس والبحث؛ ورابعتها أفقٌ رحيبٌ، وثقافةٌ إنسانيةٌ واسعةٌ. ومن ثم، فلاغرابة أن يكون هذا البحث- على صغر حجمه- من أحسن ماكتب عن ناحية من نواحي الأدب العربي في اللغة العربية أو غيرها من اللغات...إن هذا البحث يعتبر اليوم أوسع الدراسات-التي تمت في ميدان الأدب العربي- انتشاراً بين أيدي الناس في شتى البلاد»[8].
وما يميز إميليو غوميث أنه من المستعربين الأندلسيين الأوائل الذين اهتموا بتأريخ الأدب الأندلسي في شتى مراحله التطورية، ومن أهم النقاد البارزين الذين تمكنوا من رصد خصائص الشعر الأندلسي شكلاً ومضموناً. ويعد كذلك من أهم الدارسين الإسبان الذين اهتموا بالمختارات الشعرية الأندلسية، حيث جمع أشعار المبدعين والشعراء الأندلسيين المغمورين والمعروفين على حدٍّ سواءٍ.
8 -  فريديريكو كوريينتي (Frederico Coriente)
يعد فريديريكو كوريينتي (1940م-؟) من أهم الدارسين والمستعربين الإسبان الذين اهتموا بالأدب الأندلسي بحثاً وتنقيباً ودراسةً وتأريخاً، فقد كان أستاذاً للغة العربية في جامعة مدريد(1972-1976م)، وأستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة سرقسطة منذ سنة 1976م.
ومن أهم أعماله القيمة في حقل الدراسات الأدبية الأندلسية كتابه (ابن قزمان، وحبه للشعر)، وقد نشر بإسبانيا سنة 1974م.
9 -  مارين مارسكوس (Marin Marscos)
اهتم مارين مارسكوس(1946م-؟) بدراسة الشعر الملحمي والأزجال والموشحات الأندلسية، وقد انصب اهتمامه بالخصوص على آثار العنصر العربي في الملحمة الإسبانية، كما يتجلى ذلك واضحا في كتابه (العرب والشعر الملحمي)، وقد نشر هذا الكتاب في مونتريال بكندا سنة 1970م. ومن أهم كتبه أيضا في الأدب الأندلسي (ضمير الفاعل المتكلم في الخرجات) الصادر بمدريد سنة 1970م، و(أوزان الفعل في خرجات الموشحات العربية)، وقد نشره سنة 1970م. وله كذلك مقالٌ قيمٌ عن ابن قزمان، وقد نشر في المجلة الغربية في عددها 118 عام 1973م.
10 -  ماريا خيسوس روبيرا متى (M.Jesus Rubeiera Mata)
اهتمت ماريا خيسوس روبيرا متى بالأدب الأندلسي شعراً ونثراً. وفي هذا السياق،  نشرت دراساتٍ قيمةً وكتباً عدةً. ومن أهم آثارها (ابن الجياب الشاعر الآخر لقصر الحمراء). وكتبت دراسةً عن ابن عباد وترجمةً لأشعاره التي جمعها رضا السويسي، ونشرتها بمدريد سنة 1982م. وكتبت دراسة أخرى عن (الشعر النسائي في الأندلس)، ونشرتها بمدريد عام 1987م، وخصصت عصر الطوائف بدراسةٍ شملت الحكام والأدباء والشعراء، ونشر هذا الكتاب بمدريد سنة 1988م. كما نشرت بحثاً بعنوان (شعر المعشرات في المدائح النبوية) سنة 1980م. وكتبت بحثاً عن الشاعر ابن اللبانة الداني ورحلته إلى ميورقة سنة 1983م. وتناولت هذه المستعربة الإسبانية كذلك البناء الملحمي لإحدى حكايات فتح الأندلس، واهتمت بلغة الخرجات الرومانثية. ومن أهم كتبها المترجمة إلى اللغة العربية (الأدب الأندلسي)، وقد أشرف عليه الدكتور أشرف علي دعدور ترجمةً وتقديماً[9].

المبحث الرابع:  الاستعراب الإسباني في قفص الاتهام
إذا كان هناك مجموعةٌ من المستعربين قد تحاملوا كثيرا على الأدب الأندلسي بشكلٍ من الأشكال، فإن ثمة مستعربين آخرين كانوا موضوعيين في تعاملهم مع الكثير من القضايا والظواهر الأدبية الأندلسية، مثل المستعرب اليسوعي الإسباني خوان أندريس (Juan Andrés) الذي اعترف بأثر الثقافة العربية الإسلامية في الثقافة الأوربية بصفةٍ عامةٍ، والثقافة الإسبانية بصفةٍ خاصةٍ؛هذا الرأي دفع إلى «فصله من الجماعة اليسوعية، والحكم عليه بالطرد والتغريب عن وطنه سنة 1767م.
 وأتاح له هذا النفي بإيطاليا أن يعكف على تأليف كتابه الموسوم ب« أصول الأدب عامةً وتطوراته وحالته الراهنة»، وصدر له في سبعة أجزاء في بالرم ما بين سنتي (1782-1798م)، ثم ترجم إلى اللغة الإسبانية سنة 1806م بعنوان: «Origin,Progresos y estado actual de toda literatura»»[10].
وقد توصل الباحث إلى أن الشعر الإسباني قد تأثر في بداياته الأولى بشعر العرب. ثم، انتقل هذا التأثير إلى باقي دول أوروبا عن طريق الرحلات المتبادلة بين الإسبان والفرنسيين.
وهناك أيضا المستعربة الإسبانية خيسوس روبييرا متى التي دافعت كثيرا عن العرب المسلمين في مدى إثرائهم للحضارة الغربية بصفة عامة، والحضارة الإسبانية بصفةٍ خاصةٍ. وشكلت هذه المستعربة  استثناءً في حركة الاستعراب الإسباني الذي جنى كثيراً على الأدب الأندلسي بصفةٍ خاصةٍ، والأدب العربي بصفةٍ عامةٍ، حيث فقد هذا الاستعراب الثقافي، في كثير من الأحيان، موضوعيته العلمية، وخسر مصداقيته الأكاديمية. وفي هذا الصدد، يقول أشرف علي دعدور مترجم كتاب (الأدب الأندلسي) في حق هذه المستعربة: «ومؤلفة هذا الكتاب إحدى هذه الاستثناءات المشرقة، والتي عنيت بدراسة الأدب والحضارة الأندلسية التي لم يعد ينظر إليها على أنها وافدة على إسبانيا، جاءت مع مستعمرٍ عربيٍّ أو مسلمٍ، وإنما باعتبارها تراثا حضاريًّا لإسبانيا الإسلامية، وبناءً شامخاً ساهم الإسبان الأجداد في بنائه، وهم ينتمون إلى هؤلاء الأجداد من العرب والمسلمين، وتصحح ما انطبع في خيال الغرب عنهم، فتقول: إن الحديث عن الخمول والشهوانية المشرقية المستعرة والمتهتكة تشكل فقط جانباً من تخيلاتنا الخاصة، فالأدب العربي في العصر الوسيط هو نتاجٌ أو عملٌ لرجال الدين بما تحمله الكلمة من معنى يجعلهم في مصاف الأدباء في العصر الوسيط، دون أن تحمل إشاراتٍ للنظام الديني الكهنوتي»[11].
ومن جهةٍ أخرى، نرى كثيرا من المستعربين الإسبان قد  تحاملوا على الأدب الأندلسي انتقاصاً وازدراءً واحتقاراً، كما فعل خوليان ريبيرا (Julian Ribera) الذي صرح أن الموشحات الأندلسية مستمدةٌ من أصولٍ إسبانية رومانثية لوجود مقاطعَ شعبيةٍ في بعض الخرجات. ويعني هذا أن مصدر الموشحات الأندلسية هو الشعر الغنائي الشعبي الإسباني[12]. وقد أيده في هذا الطرح المستعرب الإسباني رامون مينينديث بيدال الذي رأى أن أصل الموشح أعجميٌّ ليس إلا. والدليل على ذلك استعمال نظام الأقفال والأغصان والأبيات والخرجات، وتذكرنا هذه الطريقة بنظام المقاطع (Strophes)الموجودة في الشعر الغربي. في حين، لم يعرف الشعر العربي، على مستوى البناء، سوى القصيدة الموحدة روياً وقافيةً ووزناً[13].

تركيبٌ واستنتاجٌ:
وهكذا، يتبين لنا  أن الاستعراب الإسباني قد اهتم بالأدب الأندلسي بحثاً وتوثيقاً وجمعاً وتحقيقاً ودراسةً وتأريخاً مند فترةٍ مبكرةٍ، بعد سقوط الأندلس مباشرةً. وهناك من يحددها بفترة القرن الثالث عشر الميلادي. وقد امتد الاهتمام بهذا الأدب، بشكلٍ فعليٍّ وعلميٍّ وأكاديميٍّ، من القرن التاسع عشر الميلادي إلى يومنا هذا. لكن ما يلاحظ على الاستعراب الإسباني تأرجحه بين الذاتية والموضوعية. ومهما تعددت هنات هذا الاستعراب من النواحي العلمية والتاريخية،ومهما كثرت أخطاؤه المعرفية والمنهجية، فإن الاستعراب الإسباني قد قدم خدماتٍ جليلةً للأدب الأندلسي، بجمع المخطوطات العربية، والحفاظ عليها، وفهرستها، وتجليدها، وتصنيفها، وتحقيق متونها، وتوثيقها توثيقاً علميّاً، ودراستها في ضوء مقارباتٍ تاريخيةٍ، وفنيةٍ، وببليوغرافيةٍ، ومرجعيةٍ، ونصيةٍ. ومن هنا، فقد عرف الاستعراب الإسباني الأدب الأندلسي تعريفاً علمياً شاملاً وموسوعيّاً، شعراً ونثراً، باستقراء أجناسه، واستقصاء فنونه، واستعراض أنواعه، وتحليل أنماطه الفنية والجمالية.

---------------------------------------
[1] نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، السنة 1980م، ص174.
[2] نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، ص175.
[3] نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الأول، ص94.
[4] نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، ص190.
[5] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، ص214.
[6] إميليو غارثيا غوميث: الشعر الأندلسي، بحثٌ في تطوره وخصائصه، ترجمة: حسين مؤنس، دار الرشاد، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2005م.
[7] إميليو غرسيا غوميث: مع شعراء الأندلس والمتنبي، سيرٌ ودراساتٌ، ترجمة: الدكتور الطاهر أحمد مكي، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1978م.
[8] حسين مؤنس: (تقديم) كتاب: الشعر الأندلسي، بحثٌ في تطوره وخصائصه، دار الرشاد، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2005م.
[9]  ماريا خيسوس روبيرا متى: الأدب الأندلسي، ترجمة: أشرف علي دعدور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 1999م.
[10]  مصطفى الغديري: (نظرية المستشرقين في أصول الموشحات الأندلسية عرضٌ ونقدٌ)، ندوة البحث في التراث الغرناطي: حصيلةٌ وآفاقٌ، منشورات كلية الآداب، وجدة، المغرب، 1988م، ص15.
[11] أشرف علي دعدور: (مقدمة المترجم)، الأدب الأندلسي، لماريا خيسوس روبيرا متى، ص4.
[12] شارل بيلا: (الموشح والزجل)، مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض، المجلد الأول سنة 1390ه/1970م، ص45.
[13] Ramón Menendez Pidal: Poesia arabe y poesia europia, 1er ed.Madrid 1941.P.P52- 76.