البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية (بين جاك بيرك وأندرية ميكال)

الباحث :  أ. د. سليمة لوكام
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  17
السنة :  السنة الخامسة شتاء 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 18 / 2019
عدد زيارات البحث :  1358
تحميل  ( 705.770 KB )
مقدمة وإشكالية:
عقب الجدل الكبير الذي أحدثه كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، وبعد الهزّة التي أحدثتها بعض الرؤى والمفاهيم التي طرحتها كثير من الأقلام العربيّة الإسلامية في مسألة التعاطي مع الاستشراق ظاهرةً ومعرفةً و رؤيةً، تعالت بعض الأصوات بوجوب البحث في طروحات الاستشراق المعاصر، وتقصّي أنحاء النّظر في مرجعياته، واستكناه أهدافه بغية التعرّف على العناصر التي تشكّل رؤية الآخر الغربي المفكّر المثقف للأنا العربيّة المسلمة في كلّ مناحي الحياة، وخاصّة الثقافيّة والحضاريّة منها. 
وقد ارتبط الاستشراق منذ بداياته بمنجز الحضارة العربية الإسلامية في أبعاده الدينية والعلمية والفكرية والثقافية والأدبية، وهو على اختلاف مدارسه وتوجهاته وفلسفاته وأهدافه، قد نال حظًّا وافراً من الدراسة والتمحيص والنقد على أيدي الباحثين العرب، وقوبل بصنوفٍ من التلقّي في الثقافة العربية المعاصرة، تنوس بين التحمّس له والتوجّس منه، وتتلجلج بين تمثّل طروحاته والإشادة بما أزجاه، وبين الإعراض عن ذلك، وبيان ما يندسّ في ثناياه من آفاتٍ معطباتٍ خاصةً في مواقفه من الإسلام والقرآن.
والحقيقة أنّ ما اشتغل به الاستشراق منذ ظهوره، وعلى امتداد قرونٍ، من التراث العربي القديم، وفي مجال الأدب تحديدًا، لا يساوي ما عُنِي به من أدبٍ حديثٍ ومعاصرٍ، ويبدو ذلك منطقيًّا بالنظر إلى جملة من الحيثيات:
- قِصر امتداد هذا الضرب من الأدب الحديث والمعاصر في الزمن، حتّى إنّه ليكاد ينحصر في القرن العشرين، ومن ثمّ عُدَّ مجال الدراسة محدودًا نسبيًّا من هذه الزاوية.
- تميّز التراث الأدبي العربي القديم بخصوصياتٍ، فضلاً عن ثرائه وغزارته، جعلت جهود المستشرقين تنصرف إليه، وتكدّ في تسليط الضوء عليه، والعناية به، ومن أهم تلك الخصوصيات: مسألة المركز والهامش فيه، وتصنيف الأدب العالِم الرسمي منه والشعبي، وتعلّق ذلك بمسألة التدوين والشفوية، وسلطة السياسي والديني على الأدب، وغياب التنظير للأدب، شعره ونثره، لعدم جنوح العقلية العربية إلى ذلك.
وتأسيساً على ذلك لا نكاد نجد مستشرقاً من القرن العشرين  لم يَخُضْ في جانبٍ من جوانب التراث الثقافي الأدبي العربي ولو عَرَضاً، في حين نُلفي العديد من المستشرقين من الفترة ذاتها، لم يطأوا أرض الأدب الحديث أو المعاصر، ولعلّ أقرب مثالٍ نسوقه في هذا الموضع «ريجيسبلاشير»R.Blachère أو «شارل بيلا» C.Pellat، أو «لويس ماسينيون»Massignon.
وقد يعترض البعض على هذا القول بأن طبيعة اختصاص المستشرق، أو مجال اهتمامه يجعله ينصرف عمّا سواه، وهذا أمرٌ واردٌ، غير أنّ ما سنورده هنا يدحض هذا الرأي، فهناك كثير من المستشرقين من اختص بالقديم والحديث معاً، ولعلّي أقصر حديثي على نموذجيْن أحدهما ألمانيٌّ، والثاني فرنسيٌّ، فمن الألماني تبرز المستشرقة الباحثة في التراث الديني والصوفي الإسلامي «آن ماري شيميل» Anne-Marie Schimmel التي أصدرت كتابا بالألمانية بعنوان «الشعر الوجداني العربي المعاصر»، وقد تناولت فيه الشعر العربي المعاصر منذ سنة 1945 بالدراسة والترجمة، ولعلّها «الترجمة الأولى للشعر العربي المعاصر إلى اللغة الألمانية»[1].  ومثلها المستشرق المختص في  الفلسفة والأديان المقارنة، والمهتمّ بالتصوّف في البلاد الإسلامية والشرق الأقصى «برند مانويل فايشر» Brandt Manuel Fisherالذي قدّم العديد من المحاضرات والمقالات، وأشهرها محاضرة بعنوان «اتجاهات الشعر الوجداني العربي الحديث في الشرق الاوسط»، وفيها وقف على أهمّ المؤثرات الغربية كالروسية (مكسيم جوركي Gorki وماياكوفسكيMayakovski)، والألمانية (بريخت BrechtوغوتهGoethe)، والإنجليزية (ت.س.إيليوتT.s.Elliot...)  والمؤثرات الشرقية كالأساطير الشرقية والتراث الصوفيّ والقرآن الكريم وبعض النصوص المقدّسة، حتّى إنّه يقول في موضع الحديث عن أدونيس:«ابتدأ بعد اكتشاف الأدب الغربي المعاصر بحثٌ جديدٌ عن الذات والشخصية العربية، وحدث اكتشافها الجديد تحت ظروفٍ جديدةٍ، ولقد اكتشف أدونيس سرياليةً أخرى قبل السريالية الأوربية المعاصرة، وهي الشعر الصوفي العربي والفارسي»[2].
وقد اخترنا من النموذج الفرنسي المستشرقين «جاك بيرك»Jacques Berque  و«أندريه ميكال»Miquel  André. فالأوّل عالم اجتماع وإسلاميات في الأصلsociologue et islamologue، والثاني باحثٌ في تاريخ العالم العربي الإسلامي، وفي جغرافيته، والرجلان من رجال الفكر والثقافة، ولكنّهما أبديا اهتماماً بالأدب العربي الحديث والمعاصر، فترجما بعض الأعمال الشعرية والروائية والقصصية إلى اللغة العربية، وكتبا مقدّماتٍ لترجمات ولكتب تناولت الأدب العربي الحديث والمعاصر بالبحث والدراسة، كما أشرفا على العديد من الأطروحات الجامعية التي اندرجت ضمن هذا التوجه.
ليس في وكدنا أن نقدّم مجمل المنجز الذي حقّقه هذان المستشرقان، ولكنّ ما نحن بصدده يبدي الحاجة للتوقف عند بعض ما أسهما به، وعُدّ ذا أهميّة بالغة في انتحاء بعض الطروحات النقدية العربية منحًى خاصًّا، وقد ارتأينا أن نعرض رؤية كلٍّ منهما على حدةٍ، ثمّ نركّب إذا كان ما سنصل إليه يقتضي ذلك.

جاك بيرك ومسألة التأصيل:
جاك بيرك هو مستشرقٌ فرنسيٌّ مولود بالجزائر، وعالم اجتماعٍ وأنثروبولوجيٌّ، تخصص في المغرب العربي والشرق الأوسط، وباحثٌ في الإسلام وتاريخه، ومترجمٌ للقرآن الكريم وللمعلقات العشر ولعددٍ كبيرٍ من النصوص الأدبية العربية القديمة والحديثة إلى اللغة الفرنسية.
يفضّل «جاك بيرك» أن يوصف بالمعرّب arabisant أكثر من المستشرق لأنّه يرى أنّ نعت «مستشرق» ذو إيحاءٍ مركزيٍّ أوربيٍّ، كما يروق له أن يعرّف نفسه بأنّه «عابر الضفتين»[3]passeur des deux rives.
كتب «بيرك» مقدّماتٍ للعديد من الأعمال الإبداعيةلكتاب وشعراء معاصرين، مثل تقديمه المميّز لترجمة رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، ولترجمة كتاب «السد» لمحمود المسعدي من تونس، ولترجمة رواية «دفنّا الماضي» لعبد الكريم غلّاب من المغرب، ولترجمة رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح من السودان، ولترجمة رواية «عودة الطائر إلى البحر» لحليم بركات ولأعمال شعرية لأدونيس مثل «أغاني مهيار الدمشقي» وغيرها من الروايات والقصائد.
كما حظيت العديد من الدراسات الأكاديمية المكتوبة بالفرنسية أو بالعربية بمقدّماتٍ شفّت عن اطلاعٍ واسعٍ على الأدب العربي المعاصر، وأبانت عن رؤية استشراقية خاصة سنقف عند بعض تجلياتها لاحقا.
ومن تلك المقدّمات تقديمه لكتاب «الجزائر: النساء والكتابة» Algérie Femmes et écriture لأحلام مستغانمي، وكتاب «أنطولوجيا الأدب العربي المعاصر»ل «ماكاريوس» R.Makarius وكتاب Au-delà du Nilلطه حسين، وكتاب «نظرة على المسرح العربي المعاصر» لمحمد عزيزة، وكتاب «تاريخ الأدب الروائي في مصر الحديثة»Histoire de la littérature romanesque de l’Egypte modern لندى طوميش وهي المقدّمة التي نسعى إلى تفكيك خطابها لنقف على بعض ملامح رؤية  «بيرك» للأدب العربي الحديث والمعاصر في مصر، ونقلّب أنحاء النظر فيما يمكن أن يندرج ضمن توجّهه الاستشراقي في هذا الجانب.
وههنا يطرح السؤال: لِمَ اخترتُ هذه المقدّمة تحديدا؟ ونجيب بأنّ الأمر يرتدّ إلى أمرين، أوّلهما أنّ الأعمّ الأغلب ممّا ترجمه أو قدّم له «بيرك» من الأعمال العربية المعاصرة ينتظم تحت مظلة جنس الرواية.
وثانيهما أنّ دراسة «ندى طوميش» تناولت الرواية منذ إرهاصات نشوء الرواية في مصر من عصر النهضة وصولا إلى السبعينات من القرن العشرين، وذلك يفترض إحاطةً طيبةً بمجمل ما ورد في المقدّمة، ومن ثمّ يكون مجال الرؤية أشمل وأوسع.

اللقاء- التقاطع:
تبدأ المقدّمة بفقرةٍ مطوّلةٍ نسبيًّا فيها إشاراتٌ مقتضبةٌ لتاريخ مصر القديماستهلّها بطرح سؤالٍ ذي دلالةٍ عميقة ومفتوحةٍ على أكثر من صعيد حين قال: «وأخيراً هل وَجَد هذا الشعب الذي أتى من بعيدٍ جدًّا، كما هو حال نَهْره، المكان الذي يحتضن نقاط تلاقيه الخاصة؟»[4] ويتبدّى عمق طرح هذا السؤال في التفصيلات التي أردفها لاحقا، فقد اكتفى بمجرّد ذكر الفترة الهلينية والقبطية، ولكنّه في الفترة الإسلامية توقّف ليذكر «المذهب الشافعي والفترة المملوكية بأبهة واجهاتها»[5] ليصلإلى مرحلة ما يسميه هو «إلى زمنٍ قريبٍ منّا، زمن اللقيا المتوسطية فيما بين الحربين، التي تدين  بطبيعتها وبطاقتها المرجعية إلى ثقافات قارتين أو ثلاث قاراتٍ في آنٍ واحدٍ»[6].
ولعلّنا نقف هنا لنجيل الطّرف فيما يندسّ في تضاعيف هذا الخطاب من إشاراتٍ دون أن نبيّت نيّةً بعينها، فالسؤال الذي يمكن أن يطرحه أيُّ واحدٍ منّا هو: ما الذي يجعل «جاك بيرك» وهو يقدم لكتابٍ في هذا التوجّه يعرّج  للحديث عن تاريخ مصر القديم؟ خاصةً أن المؤلّفة لم تعد إليه على الإطلاق إذ انطلقت من «عصر النهضة» مباشرة.
 والمتدبّر في هذا الخطاب أيضا يمكن أن يستشف ميلاً إلى فكرة الالتقاء والتقاطع «مكان التلاقي» Lieu de rencontres   واللقيا بعد الغياب Les retrouvailles، وله أن يتساءل عن ذلك خاصةً أنّه فيما يلي من الفقرة ذاتها يعرض التحديات التي يمكن أن تعترض مصر في مسار تشكُّل هويتها، و«كيف تزاوج بين هويتها التي تحملها على الدوام وبين الاختيارات التي أخذتها على نفسها في معاركها اليوم، ومع عالم الغد. هذا هو السؤال الذي استطعت صياغته من قبل: هل تهاجمنا مصر الاسكندرية Alexandrine ومصر البيزنطية، ومصر قرون الإسلام الأولى مع بدايات الفترة المعاصرة»[7]. ثمّ يترك الإجابة للكتاب ليعيننا على ذلك.
وفي الحقيقة، بدا «بيرك» في هذا «مستشرقا» معنيًّا بالتاريخ  وبجدليّته، باحثاً يعود إلى الأصول والمرجعيات، لا يكتفي بقراءة إفرازات الحاضر أو الماضي القريب، بل ينبش في كلّ ما يمكنه أن يُلقي بظلاله، حتى من ماضٍ سحيقٍ، على حيثيات الحاضر ومعطياته، ولعلّنا لا نغالي إن انعطفنا إلى  القول بأنّ «جاك بيرك»، وبحكم تعاطيه مع ثقافة العالم العربي الإسلامي في كافة فروعها وعلى اختلاف مراحلها، أدرك أن خيطًا رفيعًا، وقد يكون سميكًا أحيانا، يربطها بماضيها القريب والبعيد طوعًا أو كرهًا، ومن هنا فهو يُسقط ذلك على ما يفضّل وسمه ب «الإبداع الأدبي النثري» La création littéraire en prose في مقابل وسم «طوميش» «الأدب الروائي» La littérature romanesque.
وكنّا ننتظر بعد ذلك أن يمضي «بيرك» للحديث عن «هذا الإبداع الأدبي النثري، لكنّنا ألفيناه ينصرف إلى إضاءةٍ تاريخيةٍ اجتماعيةٍ لا تدعو للاستغراب بقدر ما تحفّز على الرغبة في  تقصّي أنحاء النظر في هذه الرؤية الخاصّة.
مضى «بيرك» في «الإحاطة بالمسألة» انطلاقاً من كون مصر في«كليتها الجغرافية والاجتماعية والأخلاقية نقطة التقاء ثلاث قارّاتٍ، تهاجمها الحداثة في ثباتها السحيق»[8].
ونعاين بجلاءٍ أنّ المستشرق لا يني يؤكّد فكرة التقاطع والالتقاء، بل إنّه يذهب أبعد من ذلك في جعل الحداثة التي كانت مصر محل هجومها Agresser حداثاتٍ، ثمّ طرح السؤال: «أيُّ الحداثات؟ الحداثة التي أومضت بأنوارها على بونابرت؟ أم الحداثة ذات الطابع الرأسمالي الاحتكاري التي تمسّكت بالقنال لوقتٍ طويلٍ؟ أم حداثة التنظيمات والتجهيزات التي أراد محمد علي من خلالها جعل مصر مجال دولةٍ مكتملةِ التنظيم؟ أم حداثة الثقافات الصناعية التي صيّرت البلد في تبعيّةٍ لمصانع ما وراء البحر؟»[9].

نشوء الرواية العربية والسياق التاريخي:
لا يخفى على كلّ ذي تبصّرٍ أنّ «بيرك» يربط بالتدريج، وبطريقةٍ استقرائيةٍ انصهار العديد من العوامل لظهور «الرواية» أهمّها بداية تنامي «البرجوازية» كما يقول «على أنقاض الإقطاع».
لم يشأ «بيرك» أن يقتحم مجال الرواية العربيّة الملغّم بالعديد من المحاذير والاحترازات، فآثر أن يلجه من مداخل جدلية التاريخ، من المحضن السوسيو ثقافي الذي تأطّرت ضمنه، كما لم يشأ أن يعزو الأمر برمّته إلى التّغيرات الاجتماعية الحاصلة، فانبرى للحديث من جهةٍ، عن أعرق مؤسسةٍعلميةٍ دينيةٍ فقهيةٍ انتصبت منذ قرون، إنّه «جامع الأزهر وجامعتها» بما يشعّه من اجتهادٍ، وما يصدّ من حملاتٍ ضدّه، ومن جهةٍ أخرى أشار إلى ظهور مركزٍ آخرَ للإشعاع في نهاية القرن التاسع عشر يدعو للغةٍ جديدةٍ بأفكارٍ جديدةٍ، إنّها شبكات الإعلام ممّا يدفع إلى التوليف والتركيب بين «قيمٍ موروثةٍ، وقيمٍ مكتسبةٍ، بين العتاقة والجدّة»[10].
ولحدّ الآن لم يجرؤ «بيرك» على تقحّم مسألة نشوء الرواية بشكلٍ واضحٍ لأنّه يدرك أن الأمر محفوفٌ بغير القليل من المزالق، ولذلك نلفيه يستجمع أكبر قدرٍ من القراءات الموزّعة على العديد من المجالات والمتسوّرة بمختلف السياقات ليصل في الأخير إلى القول: إنّ «الغرب، ومنذ فترةٍ طويلةٍ، يُمدّ مصر بالنماذج، وقد كانت لهذه النماذج أفضليةً بالتأكيد، ولكن وفق أيِّ استراتيجياتٍ؟ ولصالح أيٍّ من النخب تُوجّه؟»[11]  ليس في وسعنا إنكار ما يسعى «بيرك» إلى التأسيس له من خلال تأكيد إسداء الغرب نماذجَه العليا لمصر، ولكنّنالا نكاد نستكنه ما يسعى إلى تثبيته من ذهابه إلى القول «هل كانت النهضة الشهيرة، أو «الرونيسانس» التي حُوّلت من بيروت إلى القاهرة، حقيقةً أكثر من نجاح للمثاقفة؟ بالتأكيد، إنّها جلبت إلى مصر حركيتها، وكثيرا من الرجال الموهوبين فيها من إشهاريين ومترجمين، وفيلولوجيين، وموسوعيين، ثمّ كان من ثمرة ذلك التلاقح بل ذلك التنبيه، أن أمدّت مصر الأدب العربي بأوّل أحد أشهر أعمالها، وهو «حديث عيسى بن هشام» سنة 1908»[12].
وما يثير الانتباه في هذا الرأي، بغض الطرف عن مدى صحته أو نسبيته، هو أنّ «بيرك» قد أغفل دور البعثات العلمية المصرية إلى أوربا، وإلى فرنسا تحديدًا أين درس العديد من المثقفين والمتنورين المصريين، فلا نجد ذكرًا لهم، ولا لما اضطلعوا به من أدوارٍ رائدةٍ.
وهكذا اختار «بيرك» زاويةً حادةً أطلّ منها على نشوء جنس الرواية في مصر، ركّز من خلالها على جانبين اثنين: التحولات الاجتماعية التاريخية والمثاقفة مع الغرب و«بيروت». وإلى هنا لم يتحدّث «بيرك» عن «ظهور روايةٍ» بل عن «تحوّلات المكتوب الأدبي» Les vicissitudes de l’écrit littéraireلا عن «الكتابة الأدبية»écriture littéraire، ولذلك يتحفّظ عند الحديث عن رواية زينب بقوله «أوّل رواية عربية أو تقريبا»[13].Le premier roman arabe ou presque.
ثمّ لا يلبث «بيرك» أن يعود إلى الطرح السوسيولوجي التاريخي، فيتحدث عن مصر ما بين الحربين العالميتين ورحلة بحث شعبها عن الحرية «ليست حرية العلم فحسب، بل حرية الأعراف والضمائر والكلام،...وكان الناطقون الرسميون لهذا البحث «طه حسين» و«العقاد» وبعض الكبار الآخرين. كان بالإمكان الحديث عن كلاسيكيةٍ عربيةٍ جديدةٍ»[14].
وكأنّ «بيرك» كان بصدد البحث عن منفدٍ يعبر منه إلى الرواية، فعرّج على التغييرات التي سرّع «عبد الناصر» في إحداثها، وفتح الآفاق للمثقفين الذين لم يستطيعوا تجاوز العلماء، وفي هذه الأثناء انفتحت بعض السبل، «وعلى النقيض ممّا كان يثبّط الأجناس الأخرى، فقد استطاعت الرواية والمسرح حينئذٍ أن يحققا فائدةً في هذا الجانب»[15].
إذاً، ارتكزت قراءة «بيرك» على ما يصنع الأدب، والجنس الأدبي، أكثر من الجنس الأدبي نفسه، فلم يجرؤ على التطرق لإرهاصات الرواية، أو كيف تشكّل جنس الرواية مالم يقدّم السياقات التاريخية التي أحاطت والعوامل السياسية التي أسعفت، لينتهي به الأمر عند المعطى الثقافي الأدبي، «فلم يكن للرواية والمسرح في الماضي العربي إلّا علاقاتٌ غيرُ مباشرةٍ وغيرُ ذاتِ قرابةٍ، بخلاف الشعر الذي كان ومازال  مشدودًا بأواصرَ مباشرةٍ ومستمرةٍ»[16].
وبهذا المقطع يعرب «بيرك» صراحةً عن إنكاره أن تكون الرواية العربية المعاصرة امتدادًا للمحكيات العربية القديمة، ويعضّد ما ذهب إليه منذ بداية مقدّمته بقوله: «وكان من الطبيعي أن تُعرف مصر بالبارودي ثمّ بشوقي بينما أخذت وقتاً أطولَ لكي تعترف بروائييها، وأن تتعرّف على نفسها فيهم»[17].
كان «بيرك» بصدد البحث عن محضنٍ تأصيليٍّ يركح عليه عمل «ندى طوميش» قبل أن تتحسّس مصر طريقها-كما يشير إلى ذلك- مع الأخوين «تيمور» وريادتهما للمسرح الأدبي والقصة القصيرة، و«مع العقاد وطه حسين ثانية بوصفهما ناقديْن وكاتبَيْ مقالاتٍ أكثرَ منهما روائيين، وصولاً إلى نجيب محفوظ الذي لم يكن إلّا روائيًّا، وكان روائيًّا في العمق»[18].
وفي مختتم هذه المقدّمة، ترك «بيرك» لصاحبة الكتاب العناية بطرح المزيد من الأسئلة من خلال ما ستسائله بكثير من الذوق. أمّا ما يحصل لدينافهو أنّ «بيرك» كان معنيّا بفهم ما حدث أكثر من عنايته بما نجم عنه، فكان كما وصفه أحد أبرز تلاميذه: «تأسست أعمال «جاك بيرك»على الانفتاح على الرغبة في الفهم، وإرادة المساعدة، وعلى السّلم وعلى التقدّم»[19].

أندريه ميكال وفن الرواية العربية:
«ميكال» مستشرقٌ اهتمّ بالثقافة العربية القديمة تاريخها وجغرافيتها، نثرها وشعرها، أعاد ترجمة «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة» إلى الفرنسية، ودرس الشعر الغزلي العربي القديم خاصةً «شعر عنترة ومجنون ليلى وقيس بن ذريح»، كما أولى عنايةً بالأدب الحديث والمعاصر دراسةً وترجمةً وإشرافاً على البحوث العلمية، وهكذا يكون «ميكال» كما وصفه أحد الدارسين الفرنسيين: «يمكن أن نجزم، ودون خشيةٍ أن نقع في الخطأ، أنّه لا يوجد اليومَ معرّبٌ في فرنسا، وفي العالممن تساوي أعماله البيبليوغرافية أعمال أندريه ميكال»[20].
ما سنقف عليه من أعمال «ميكال»، ويندرج ضمن بحثنا، دراستان أولاهما عن الرواية العربية المعاصرة، وهي تحمل العنوان نفسه، والثانية حول الرواية عند «نجيب محفوظ» وهي موسومةٌ ب«La technique du roman chez Neguib Mahfouz» والتي ترجمها أحمد درويش في كتاب بعنوان «الفن الروائي عند نجيب محفوظ.»
نشر «ميكال» مقالاً له بعنوان «الرواية العربية المعاصرة»  Le roman arabe contemporain في مجلة «نقد» الفرنسية سنة 1965، وحاول فيه أن يربط بين الرواية والحداثة، والرواية والشرط التاريخي والرواية. والتراث الحكائي العربي، أو ما يسميه هو «التقاليد»، فهو في موضعٍ أوّلَ يصرّح بأنّ:
«نجاحَ الرّواية وأهميتها بالنسبة لمستقبل ثقافةٍ عربيّةٍ جديدةٍ يتوقّف على تلك العلاقة التي يتحدّد من خلالها نصيب الحداثة والتقاليد فيها، لأنّ روايةً تامّةَ الحداثة لن تَلْقى إلّا نجاحاً محدودًا في منظور الأعراف العربية الأدبية»[21].
ونعاين بجلاءٍ أنّ إدراك «ميكال» السياقات التاريخية والثقافية للأدب العربي، واشتغاله على التراث الأدبي القصصي منه («كليلة ودمنة» و«ألف ليلة وليلة»)، وَجَّهَا رؤيته في مسألة ظهور الرّواية ونجاحها في العالم العربي، وفي مصر تحديدًا، وهو في هذا يشترك مع «بيرك» ويستأنس بآرائه خاصة فيما يتعلّق ب:
-أهميّة علاقة العرب بالغرب في مسألة تشكّل الجنس الأدبي، أو ما يسميه هو «الإنتاج الأدبي الروائي» production littéraire romanesque  والحيثيات التي أحاطت بذلك.
-عدم الفصل بين القديم والحديث، وتحديدًا فيما يتّصل بفنون السرد والرّواية، وصلت عندهما إلى فكرة الامتداد والاستمرار والحديث عن «كلاسيكيات الأدب العربي». 
ولذلك نجده يؤكّد، في موضعٍ ثانٍ، أنّ: «الرواية العربيّة ليس أمامها خيارٌ، إنّها لن تلعب رابحةً إلّا بمقدار ارتباطها بتقاليدَ ماضيةٍ أو حاضرةٍ، أن تأخذ تراثاً قديماً يتمثّل في الذوق الحكائي، وتعيد تشكيله وفقا لما يفرضه عليها العصر الحاضر[22].
وهكذا، بدا «ميكال» معنيًّا بمسألة ظهور الرّواية العربيّة تقريبا من الزّاوية التي طرقها «بيرك»، فهما يكادان يتفّقان في:
- أنّ الرواية العربية نشأت مشدودة الأواصر بالماضي، ولذلك نُلفي «ميكال» يطرح سؤالاً حاسماً هنا:«ما الذي يُعدّ عربيًّا خالصًا في الرواية العربية المعاصرة؟ هل هو الوفاء لذلك القديم؟»[23].
- تثبيت الحضور الأجنبيّ، والفرنسيّ تحديدًا، في ظهور الرّواية العربيّة، وهناأيضا يطرح سؤالاً يُتْبِعُه بإجابةٍ تنمّ عن ثقته فيما يذهب إليه: «هل ما هو أجنبي مستبعدٌ في الرّواية؟ بالتأكيد، لا»[24].
ولكنّهما يختلفان في اختيار المواقع التي ينطلقان منها في التعاطي مع الأدب العربي المعاصر:
- فبينما يشفّ كلام «ميكال» عن نوعٍ من الوصاية أو لِنَقُلْ بشيءٍ من التعالي المركزي الأوربّي الذي يقيم مسافةً بينه وبين هذا الشرق ربّما ليرى بشكلٍ أوضحَ، وبموضوعيّةٍ أعمقَ، نجد «بيرك» يقرأ نشوء الرواية بربطها بواقعها وتاريخها، ويشير إلى حضور المؤثّرات الأجنبية بعيدا عن الرّؤية الاستشراقية الممعنة في التعالي، بل إنّنا على العكس من ذلك نجد نوعًا من الحنين إلى تاريخ هذا الشرق الذي ولد بين أحضانه، ورأى النور على أرضه. 
 ويتأكّد هذا في عمله الثاني الموسوم ب: La technique du roman chez Neguib Mahfouz والذي ترجمه أحمد درويش بعنوان: «الفن الروائي عند نجيب محفوظ».وقد تناول فيه عددًا من روايات محفوظ بالدراسة والتحليل، وقد أبان عن غايته من هذه الدراسة في مقدّمة الكتاب بقوله: «سوف نترك جانبًا كلّ ما يتّصل بالجوانب الاجتماعية، أو جانب الدراسات الأسلوبية الخالصة، ولن يجد القارئ هنا اهتماماً بالنماذج البشريّة، أو الاختيارات السياسية الكبرى أو الفنّ النثري، أو اللغة المستخدمة، وإنّما هدفنا أن نحدّد ملامح إنتاج محفوظ في إطار المعنى المحدّد للفنّ الروائي...أن يضع نجيب محفوظ في مكانه من الإطار الواسع لتاريخ الرّواية العربيّة»[25].
وخلافا لما ورد في هذا المقطع، فقد نظر «ميكال» مليًّا في الجوانب الفنيّة في الرّواية كالزمن والمكان والشخصيات، بل إنّه ذهب إلى المقارنة بين محفوظ الذي لم تُسمع أصوات القاهرة في روايته و«بروست» الذي أبدع في نقل ضجيج باريس، ويحتجّ لذلك بعيشه في القاهرة مدّة أربعة أشهرٍ، ويعرف عن كثبٍ تلك الأصوات.
 وفي موضعٍ آخرَ، يقرأ «ميكال» روايات محفوظ بعنايةٍ وتركيزٍ بالغين، خاصةً فيما يجعل منها نصوصًا فنيّةً على جانبٍ من الأصالة، ويمنحها صفة الكلاسكية. وفي ذلك لم يستطع «ميكال» أن يحيّد عين الأوربيّ الأجنبيّ فيه، فهو يستشهد حينا ب«ألبير كامي»، وحينا آخر ب «هنري الرابع» في قوله: «باريس ليست مدينةً... إنّها مدائن» ليسقط ذلك على «قاهرة» محفوظ، وقد وصل الأمر عنده إلى مطالبة الروائيّ المصري بالاستجابة لذوق الزّائر الأجنبيّ، بالاقتناع بما يُعرف بشعريّة القبح، وممّا صرّح به في هذا: «هنالك رفضٌ للاعتراف بوجود لونٍ من الجمال في الملامح الديكورية القبيحة المتناسقة، وهو موقفٌ مضادٌّ بداهةً للزائر الأجنبيّ الذي لديه الاستعداد والجاذبيّة في أرضٍ غريبةٍ عليه، أن يجد الرّوعة في كلّ الأشياء حتّى في البؤس ذاته»[26].
إذاً، يشرع «ميكال» باباً للغرابة L’ETRANGE، ويولي عنايته للزائر، فيما يستعدّ له، وما ينجذب إليه، أن يجد ما يروق له، وما يمتعه حتّى في البؤس.
ما بين «بيرك» و«ميكال:

مواضع الاختلاف:
لا شكّ أنّ لاشتغال الرجلين في جميع فروع المعرفة العربية الإسلامية،أثره البيّن في توجيه رؤيتهما، واتّساع آفاق دراساتهما، ولكنّ ذلك لم يمنع من اختلافهما في العديد من المسائل الجوهريّة، وفي تناولهما لمسألة نشأة الرّواية العربيّة وتطوّرها.
فعلى خلاف «ميكال»، ولد بيرك بأرضٍ عربيةٍ (الجزائر)، وعاش طويلاً في أرض عربيّة (المغرب)، واحتكّ بكثير من المفكّرين الإسلاميّين والمثقفين العرب، وكان يعي عن قربٍ الإشكالات الحضارية، ويدرك بعمق التحدّيات التي تواجهها المقوّمات الثقافية في هذه المنطقة إذ ينضفر الدين بكلّ مناحي الحياة فيها، ويتواشج التراثي بالحداثي، ولذلك نجده  متحفّظًا في إصدار أحكامه، محترزًا في قراءة المشهد الثقافيّ الأدبي، فهو مثلاً لا يرى أنّ الرواية قد بلغت درجةً من النضج التي تجعله يمنحها صفة الجنس الأدبي، ولذلك نجده يؤثر نعتها ب «الإبداع الأدبي النّثري»، فضلا عن كونه يميل إلى تأكيد أصالة الشعر وسيادته في البيئة العربية التي تخلّق في رحمها، ونشأ في أحضانها، وبلغ أوجه فيها، بخلاف الرواية التي يكاد أن يصرّح بأنّ ما توافر من ظروف لم يكن كافيًا لظهورها، وما طبع المرحلة العربيّة الحديثة من أحداثٍ سياسيّةٍ، وتحوّلاتٍ ثقافيةٍ وفكريّةٍأعاقت تكوّنها، وصيّرتها نثراً أدبيًّا في رأيه أكثر من كونها روايةً. 
وإذًا، ف «بيرك» عالمُ الاجتماعياتٍ والإسلاميّاتٍ، يرفض أن يوصف بالمستتشرق Orientaliste، ويفضّل أن يوصف ب «المستعرب» Arabisant، بل إنّه في كلّ ما قام به، كان كما يحبّ أن ينعت «عابر الضفتين»، ومن ثمّ ففي رؤية «بيرك» تركيز على فكرة «اللقاء» بين الضفتين، وبين الثقافتين، وبين الحضارتين، بينما نجد في طرح ميكال نوعا من التعالي المركزي الأوربي.
وتأسيسًا على ذلك، كان النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى بالنسبة إلى «ميكال» هو النموذج الفرنسي: فالقاهرة يجب أن تكون مثل «باريس»، ومحفوظ يجب أن يكون مثل «بروست»، في حين يحترز «بيرك» في هذا الجانب، بل يعمد إلى إيراد النماذج المصرية (العقاد، طه حسين، البارودي...).

مواضع التشابه:
أقرّ «ميكال» في كثير من المواقف بتتلمذه على «بيرك»، وصرّح في أكثر من موضعٍبأنّه يتبنّى أفكاره، ويعجب بآرائه، وقد وقفنا في هذه الدراسة على جوانبَ عديدةٍ اشترك فيها بيرك مع ميكال، وتقاطعا إلى الدرجة التي تؤكّد أنّ الانطلاق من مرجعيّةٍ استشراقيةٍ فرنسيّةٍ، على الرّغم من الفروق المذكورة آنفًا، سيجرّ بلا ريب إلى تشابه في بعض الملامح، ومنها هنا:   
- على الرغم من التفاوت الحاصل في رؤية الرجلين للرواية العربية بوجهٍ خاصٍّ، وللثقافة العربيّة بوجهٍ عامٍ، فإنّنا عاينّا بجلاءٍ أنّهما يمارسان نوعًا من الوصاية (على الرواية العربية أن تكون كذا...على العرب أن يكونوا كذا...لا يمكن أن تصل إلّا بكذا...) وقد شابت هذه الوصايةَ مسحةٌ من الاستعلاء.
- الرغبة في إثارة الشكوك، ولو من طرفٍ خفيٍّ، حول مسائل تبدو فائضةً عن حاجة المقام («بيرك» في إشارته الخاطفة إلى المذهب الشافعي، و«ميكال» في تلميحه إلى عدم قدرة الثقافة العربيّة تجاوز عجزها...)
- اتكاؤهما على مسألة الشرط التاريخي في نشوء الرّواية العربيّة، وكأنّهما يعزفان على وتر التحوّلات التاريخية التي نشأت في ظلّها الرواية الغربيّة، والتي غابت أو كادت بالنسبة إلى نشأة الرواية العربية، ولعلّ هذا ما يفسّر اكتفاء «بيرك» بوصفها ب «الإبداع الأدبي النثري» وتفضيل «ميكال» تحديدها ب« الإنتاج الأدبي الرّوائي».
- نبش المستشرقان كلاهما في التراث العربي، واطّلعا بشكلٍ عميقٍ وواسعٍ على التراث السردي العربي بوجهٍ خاصٍّ، وظهرا عالميْن بتفاصيله وخصائصه المميّزة، وقد انطلقا من هذه المرجعيّات للبحث في مدى ارتباط الرواية العربيّة بهذا الكمّ السرديّ التراثيّ الغزير.
-  لم يستطع المستشرقان أن يغضّا الطرف عن ضرورة ربط الثقافة العربيّة بالثقافة الغربيّة، ومن ثمّ تبعيّتها لها، وهما في هذا لم يخرجا عن ذلك الإطار الذي انضوى ضمنه الأعمّ الأغلب من المستشرقين، فلا غرابة إن وجدناهما  لا يفتآن يؤكّدان استلهام الرواية العربيّة النموذج الغربيّ في فنيّاتها وموضوعاتها بل يؤكدانأنّ عليها أن تقتفي أثرها إذا أرادت أن تشقّ لها طريقًا، وتحقّق  الحضور الذي حقّقته نظيرتها الغربيّة، ومن ثمّ لا يمكنها بأيّ حالٍ من الأحوال الاستغناء عنها.

خاتمة:
وصفوة ما ننتهي إليه يلخّصه هذا النص المقتبس ل«بيرك»  أورده «ميكال» وأبدى استحسانه له «إن أهمّ شيءٍ بالنسبة  إلى العرب بدءًا من الآن، ولفترةٍ طويلةٍ، لا يتمثّل في تكييف وضع أنفسهم بالنسبة إلى الغرب، بقدر ما يتمثّل فيما ينبغي على الغرب أن يفعله في وضع نفسه بالقياس بهم»[27].
وهو في مجمله يكرّس مبدأ الوصاية على الثقافة والأدب والفكر الذي تحمله فكرة الاستشراق، حتّى إننا لنجد الرجلين كليهما يسمحان لنفسيهما أن يستشرفا مستقبل العرب و«لفترةٍ طويلةٍ»، ويعطيان للغرب الحقّ فيما ينبغي أن يكون عليه وضع العرب.
وأيًّا كان الشأن، فقد حاول المستشرقان الفرنسيّان أن يبحثا ويتقصّيا في إشكاليّةٍ ما زالت محلّ بحثٍ من الدارسين العرب والغربيين على حدٍّ سواءٍ، وقد ولجا ساحته من مداخلَ مختلفةٍ، وقدّما رؤًى وتحليلاتٍ استندت في كثير من الأحيان إلى ذهنيّةٍ محكومةٍ بمنظومةٍ فكريةٍ ثقافيّةٍ لم تستطع أن ترى الشرق إلّا بالعين التي تُقصي حدوث أيِّ نهضةٍ في البلاد العربيّة دون أن تكون للغرب اليد الطولى في ذلك.

----------------------------------
[1] ب. فايشر، الشرق في مرآة الغرب، دار سراس للنشر، تونس، 1983، ص91.
[2] المرجع نفسه، ص104
[3] Mustapha Chérif,Jean Sur; Jacques Berque, Orient-Occident; Éditions ANEP; Alger; 2004; P10.
[4] Nada Tomiche.  Histoire de la littérature Romanesque de l’Egypte moderne; Maisonneuve Et Larose; Paris; 1981; p3.
[5] Ibid; p 3.
[6] Ibid; p 3.
[7] Ibid; p 3.
[8] Ibid; p 3.
[9] Ibid; p 3
[10] Ibid; p 4.
[11] Ibid; p 4.
[12] Ibid; p 4.
[13] Ibid; p 4.
[14] Ibid; p 5.
[15] Ibid; p 5.
[16] Ibid; p 5.
[17] Ibid; p 5.
[18] Ibid; p 5
[19] Mustapha Chérif Jean Sur; Jacques Berque OrientOccident;Editions ANEP; Alger; 2004; P10.
[20] Pierre Larcher ; André Miquel ;analyste et traducteur de littérature arabe;Synergies; Monde arabe;n6;2009;p10.
[21] أندريه ميكال، الرواية العربية المعاصرة، ترجمة أحمد درويش، في كتاب الأدب العربي والاستشراق الفرنسي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ص 133.
[22] المرجع نفسه، ص 134.
[23] المرجع نفسه، ص139.
[24] المرجع نفسه، ص 134.
[25] أندريه ميكال، الفنّ الروائي عند نجيب محفوظ، ترجمة أحمد درويش، في كتاب  الأدب العربي والاستشراق الفرنسي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ص 147.
[26] المرجع نفسه، ص 230.
[27] المرجع نفسه، ص 149.