البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد الرواية العربية من منظور الاستشراق روجر ألن مثالاً

الباحث :  أ. م. د. علي محمد ياسين
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  19
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 31 / 2019
عدد زيارات البحث :  2851
تحميل  ( 855.169 KB )
الملخص

للبروفسور المستشرق (روجر ألن ) اهتماماٌت واضحةٌ في الأدب العربي الحديث تعكسها مجموعة الروايات العربية المتعددة التي ترجمها إلى اللغة الإنجليزيّة و مجموع البحوث والمحاضرات التي خصصها لهذا الأدب مركِّزًا على جانبه النثري الذي لم يجد الاهتمام المطلوب من قبل المستشرقين قدر اهتمامهم بالمجالات الأخرى إبداعيةً كانت أو معرفيّةً.
يسعى هذا البحث للوصول إلى الكيفية التي يفهم بها القارئ الغربي أدبنا العربي الحديث، وذلك عبر تسليط الضوء على الطريقة التي تعامل بها هذا المستشرق مع الفن الروائي العربي من خلال كتابه: (الرواية العربية، مقدمةٌ تاريخيةٌ ونقديةٌ) ثم محاولة تقصّيمفاهيمه العامة لهذا الجنس السردي وصولًا إلى منهجه في التعامل مع الأدب العربي الحديث ممثّلًاببعض الأعمال الروائية والقصصية التياستجابت لها ذائقته النقدية فقرأها على وفق هذه الاستجابة.



المقدمة
يعد المستشرق البريطاني روجر ألن المولود عام 1942م في (بورن ديفون) والحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة أوكسفورد في بريطانيا عام 1968م،[1] واحدًا من ألمع المستشرقين المعاصرين ممن اهتموا بالأدب العربي الحديث الذي لم يكن ليستقطب الدراسات الاستشراقية أسوةً بالآداب الكلاسيكية العربية؛ لصعوبته أولا ولقلة البحوث المكتوبة عنه في الأكاديميات الغربية، قياسًا بالبحوث والدراسات الأخرى المكتوبة في المجالات الفكرية والتاريخية والدينية التي شغلت الاستشراق وحركت دوافعه العديدة[2].
وقد عمل (روجر ألن)مدرسًا لمادة الأدب العربي في الجامعات البريطانية بعد حصوله على شهادة الماجستير، ثم تحوّل للعمل بجامعة بنسلفانيا في فيلاديلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، وما يزال محاضرًا بدرجة (بروفسور) في التخصص نفسه وفي الجامعة نفسها[3]، وقد كتب داخل أروقة هذه الجامعة أول دراسةٍ له بعنوان: حديث عيسى بن هشام للمويلحي، دراسة عصرٍ في ظل الاحتلال البريطاني الصادرة عن دار نشر جامعة نيويورك عام 1974م[4].
قدم هذا المستشرق العديد من المحاضرات حول الرواية العربية أيام عمله في الجامعات البريطانية، ثم جمع هذه المحاضرات وأضاف إليها الكثير لينشرها عام 1982م في الولايات المتحدة الأمريكية بكتاب ترجمته إلى العربية (حصة إبراهيم المنيف) بعنوان: (الرواية العربية، مقدمة تاريخية ونقديّة)[5]، وهو ما سيرتكز عليه هذا البحث الموجز، مضافًا إليه كتابه الثاني الصادر عام 2000م، بعنوان (مقدمةٌ عن الأدب العربي) والمترجم هو الآخر إلى العربية بوساطة ثلاثةٍ من المترجمين العرب، هم: (رمضان بسطاويسي، مجدي أحمد توفيق، فاطمة قنديل) والمنشور عام 2003م،عبر مؤسسة المشروع القومي للترجمة فيالقاهرة، والكتابان يكشفان عن إلماٍم واضحٍ بتاريخ الأدب العربي الطويل، ولا سيما الحديث منه، وعن معرفة بالأسماء المبدعة في الفن الروائي من مختلف الأقطار العربيّة.
وبالنظر إلى المنزلة الرفيعة التي يتمتع بها (روجر ألن) من خلال تفاعله مع المشهد الثقافي العربي المرتبط بالفن الروائي فقد اُنتدب إلى جانب تدريسه في الجامعة رئيسا للجنة تحكيم جائزة (بانيبال) للترجمة، وعضوًا مشاركًا في لجنة تحكيم جائزة (العويس) الدولية، فضلًا عن رئاسته تحرير مجلة آداب الشرق المتوسط، وإعداده لأحد أجزاء تاريخ (كمبردج) للأدب العربي[6].
وإيمانًا منه بالقيمة الفنية العالية وبالجدارة الأدبية التي تحملها الرواية العربية، فقد نقل إلى الإنجليزية الكثير من القصص والروايات العربية، منها على سبيل المثال لا الحصر، رواية (خان الخليلي) لنجيب محفوظ ورواية (حكايتي شرحٌ يطول)، كما ترجم رواية الأديب المغربي بن سالم حميش (مجنون الحكم) المستوحية لسيرة العلامة ابن خلدون، فضلًا عن ترجمته لبعض أعمال يوسف إدريس وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف ومي التلمساني، وسواهم من الأدباء العرب المعاصرين[7].
وستحاول هذه الدراسة الموجزة من خلال مباحثها الثلاثة الوقوف على مفهوم (روجر ألن) لفن الرواية وتتبع منابع الرؤية المشكّلة لهذا المفهوم من خلال تحليل نصوصه، لا بوصفه ناقدًا فحسب؛ وإنما بوصفه ناقدًا ومستشرقًا في آنٍ واحدٍ، لا سيما وأن النقد الأدبي الروائي من منظور الاستشراق -كما يبدو لي- لم يتطرق إليه أحد من الباحثين العرب ضمن بحثٍ علميٍّ منشورٍ.
كما ستسعى محاولتنا هذه إلى مقاربة المنهج النقدي الذي تحركت في إطاره اشتغالات هذا المستشرق حينما اختار نماذجَ معينةً من الرواية العربية في كتابه هذا بغية تحديد الموقف الفكري الذي يضمره من خلال تفضيله هذه النماذج التي قاربها دون غيرها.

المبحث الأول
-المستشرقون والسرد العربي الحديث، مدخلٌ أوّليٌّ
على الرغم من الصعوبات الجمة التي تواجه الدارسين لوضع تعريف مانعٍ جامعٍ للرواية بوصفها فنًّا إبداعيًّا مستمرًّا في التطور وغيرَ مكتمل الملامح وغيرَ خاضعٍ لضوابطَ وأعرافٍ فنيةٍ نهائيةٍ،[8] فإن مصطلح الرواية المحيل على نوعٍ من أنواع سرد القصص المشتمل على العديد من الأحداث والشخصيات المتنوعة الانفعالات والمشارب والدوافع قد انتقل للدلالة على العمل القصصيبعد أن كان متعلّقا بعملية نقل الأخبار والأحاديث والأسمار والقصص والحكايات[9].
إن للرواية - كما يرصد ذلك عبد الملك مرتاض- تعريفاتٌ لا تُحصى[10]، لكنها تبقى في نهاية المطاف جنسًا أدبيًّا راقيًا، وشديدَ التعقيد، تتلاحم أجزاؤه وتتضافر لتكوّن شكلًا أدبيّا عماده اللغة الأدبية والخيال الذي يسقي هذه اللغة مشدودًا بعنصر السرد وما يقتضيه من حبكةٍ وحوادثَ وشخصياتٍ تواجه مصائرَ متنوعةً[11].
وربما انسحبت إشكالية تحديد ماهية الرواية وصعوبة تعريفها كجنسٍ أدبيٍّ على إشكاليةٍ أخرى متعلقةٍ بالتاريخ الأدبي لها، إذ دَرَج المهتمون على أن بداية التاريخ الفني لها عالميًّا ينطلق مع رواية (دون كيشوت 1605م) للكاتب الأسباني سرفانتس، وعربيًّا مع رواية (زينب 1914م) للكاتب المصري محمد حسين هيكل، على الرغم من وجود أشكالٍ قصصيةٍ أخرى سابقةٍ لهذين العملين في الأدب العالمي والأدب العربي على حدٍّ سواءٍ.
وهذا لا يعني أن ظهور الرواية العربية وبروزها مرتبطٌ بصاحب رواية (زينب) وحده، بل هو ثمرةٌ لعواملَ عديدةٍ: أدبيةٍ، وثقافيةٍ واجتماعيةٍ، ولتطور المجتمع العربي الحديث بعد الاحتكاك بأوربا، ولظهور الطباعة وانتشار الصحافة ونشاط حركة الترجمة، فضلًا عن التطورات الاقتصادية الكبرى التي أسهمت بحدوث تحولاتٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ كان فنُّ الرواية فيها من أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على مواكبة الأحداث ورصدها والتعبير عنها.
ولما كان النقد الأدبي جزءًا من المشهد الثقافي، ينحطّ بانحطاطه ويزدهر لازدهاره فقد صاحب الروايةَ العربيةَ بعد ظهورها نقدٌ جديدٌ مختلفٌ لم تعهده الثقافة العربية المتآلفة مع فن الشعر لقرونٍ طويلةٍ، والممتلكة لتراثٍ عريقٍ يجيد التعامل مع هذا الفن القريب من ذائقة العربي ومن نفسيّته، وقد اختلفت مواقف النقاد العرب وطرق معالجتهم ومناهجهم في تناولهم لفن الرواية اختلافًا كبيرًا[12].
أما عند المستشرقين فقد نالت الرواية العربية حظوةً كبيرةً من المهتمين منهم بالأدب العربي الحديث تجاوزت حظوة الشعر نفسه، وقد وجدت هذه الرواية طريقًا إلى ترجماتهم الكثيرة لنماذجَ مختلفةٍ منها، وإنّ هذه الترجمات كانت ( أقرب إلى الدارسين الغربيين من ترجمة الشعر والمسرح، كما أنها [ الرواية] لا تعبّر عن طبيعة البيئة العربية وحدها، بل تطرح قضية الإنسان بشكلٍ عامٍّ، وهي تخلو من تعقيدات الشعر، وتهويمات المسرح، وتكشف عن خصائص الأديب والمجتمع معًا)[13].
وبهذا الصدد فإنّ الاستشراق، وإنِ اُتُّهم بتركيز اهتمامه على تاريخ الشعوب الشرقية في الماضي البعيد، وبإهمال تطور هذه الشعوب في العصور الحديثة والسكوت عن نهضتها القوميّة باقتصاره على دراسة الجوانب البالية والميتة من الحضارات الشرقيّة[14]؛ فإن الباحث لا يعدم وجود اهتمامٍ واضحٍ بشؤون الحياة الثقافية والأدبية المعاصرة عند العرب، وبفن الرواية خصوصًا، وقد ابتدأت ريادة هذا الاهتمام مع (أغنانيوس كراتشكوفسكي) الروسي، ثم تابعته تلميذته (كلثوم عودة فاسيليفيا) التي نشرت المنتخبات لدراسة الآداب العربية منذ سنة 1880م- 1925م، متناولةً أدب جرجي زيدان وأمين الريحاني وجبران خليل، ثم لحقتها بدراساتها عن توفيق الحكيم والمازني وذي النون أيوب والشرقاوي ويوسف إدريس وغيرهم[15].
وما يؤكد هذا الاهتمام لاحقًا هو كثرة الرسائل والأطاريح المسجلة في الأكاديميّات الغربية عن فنون العرب السردية الحديثة، ومن هذه الدراسات مثلا: أطروحة المستشرق الفرنسي (شارل فيال) بعنوان: الاتجاهات الاجتماعية في القصة العربية المعاصرة، في عام 1957م، ورسالة المستشرق الأسباني (فرناندو أويدا) بعنوان: الأقصوصة المعاصرة في المغرب عام 1969م، ورسالة المستشرقة الأسبانية (ماريا توماس كلارا ) عن الرواية النسائية المعاصرة في سوريا[16].
ومع مطلع السبعينيات من القرن الماضي شهد حقل الرواية العربية إقبالًا واضحًا من المستشرقين الفرنسيين، إذ كتب (شارل فيال) مجموعة كتبٍ عن الرواية العربية منها كتابه: المرأة في أدب نجيب محفوظ عام 1972م، وكتاب عن أدب يحيى حقي القصصي، وثالث بعنوان: القاهرة في نظر الروائيين العرب عام 1973م، كما كتب المستشرق الفرنسي (مونييه) عن الأدب القصصي لمحمد عبد الحليم عام1974م، في حين اختارت المستشرقة الفرنسية (ندا توميش) في العام 1975م أن تؤرخ للقصة المصرية بعد حرب حزيران عام 1967م، وأن تكتب في العام 1976م عن ريادة القصة المصرية وبواكيرها الأولى[17].
أما التطور الكبير الذي حققته الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين من القرن نفسه، لا سيما بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988م فقد أغرى المستشرقين المهتمين بالسرد العربي بالدخول إلى عوالم نجيب محفوظ بغية اكتشافها وتحليل شخصياتها المتحركة في محيطٍ شرقيٍّ إسلاميٍّ يكابد من أجل النهوض واللحاق بركب الحضارات الإنسانية الصاعدة.
ولذلك فقد بلغ عدد المقالات والدراسات التي كتبت عن محفوظ بعد حصوله على الجائزة في بريطانيا وحدها أكثر من ثلاثين مقالًا وبحثًا كتبها مستشرقون في الدوريات الإنكليزية فقط[18].
ولعل المستشرق الراهب (جاك دومييه) المهتم بالأبعاد السيكولوجية لشخصيات محفوظ الروائية من أقدم المستشرقين اهتمامًا بأدب هذا الروائي المميز، إذ كتب كتابًا بعنوان (ثلاثية نجيب محفوظ) نقله إلى العربية بالعنوان نفسه الشاعر المصري نظمي لوقا[19]، ثم توالت البحوث والدراسات الاستشراقية الكثيرة عنه.
وإذا كان محفوظ هو الاسم المميز في عالم الرواية العربية فإن يوسف إدريس هو الاسم المميز في عالم القصة العربية القصيرة، ولذا فقد حظي إبداعه القصصي بمتابعات المستشرقين وقراءاتهم الكثيرة، وكان من أهم هذه الدراسات دراسة (كربرشويك) الهولندي المنقولة للعربية[20] أيضا.

المبحث الثاني
-مفهوم الرواية، والرواية العربية عند روجر ألن
للوصول إلى مفهوم الرواية عند روجر ألن لا بد من الوقوف على مفهومه لمصطلح (أدب) الذي تقصىدلالته في الموروث النقدي والأدبي العربي في كتابه (مقدمة للأدب العربي)[21] ابتداءً من الجاهلية وعصر الإسلام مرورًا بالعصور اللاحقة وانتهاء بالعصر الحديث دون أن يرجّح تعريفًا محدَّدًا لهذا المصطلح الذي اعترف بتحوّل دلالته وتغيُّرها بحسب المحيط والتاريخ العربيين، وبارتباط مفهومه كتعبيرٍ راقٍ، وبكل أنماطه وأجناسه الشعرية والنثرية بـ( اللغة الرفيعة ارتباطا وثيقًا إلى حدّ استبعاد الأنماط الأخرى من الإبداع غير المتوافقة مع تلك المعايير)[22]. وقد ظل (روجر ألن) يؤكد ضرورة اشتمال كلِّ أدبٍ إنسانيٍّ على أمرين مهمين، هما الإنسانية والِجدّة التي تعني: (أن يكون العمل مبتكرًا وأصيلًا، وأن يكون شكلًا لا يُكرِّر ما يردده معظم الناس إما بحكم الحاجة أو الاضطرار)[23]. كما اشترط في مواضعَ كثيرةٍ من كتابيه أن يكون العمل الأدبي غير مكرور ولا مبتذلٍ وأن يكون متعلقًا بهموم الإنسان الفرد ومعبِّرًا عن هموم الجماعة التي ينتمي إليها هذا الفرد[24]. وعلى الرغم من إقرار (روجر ألن) بصعوبة تحديد مفهومٍ ثابتٍ ونهائيٍّ لفنِّ الرواية، واصفًا إياها بأنّها: (نمطٌ أدبيٌّ دائمُ التحول والتبدّل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حالٍ)؛ فهو لا ينفي صلتها العميقة بالحياة واتصالها الوثيق بكينونة الإنسان، وقدرتها على اجتذاب أنماطٍ متنوعةٍ ومختلفةٍ من القُرّاء الذين وجدوا خلال المائتي السنة الماضيتين ضالّتهم في هذا الشكل الأدبي القادر على إحداث لونٍ من التطابق المفترض بين الحياة والفن[25].
إن الرواية بتصور هذا الناقد المستشرق من أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على تصوير الذات والواقع الذي تحيا ضمنه، وهي بوصفها جنسًا أدبيًّا قادرةٌ علىتشخيص ذاتها بطرقٍ مختلفةٍ، كما أنها ليست مجردَ حكايةٍ تقوم على سرد مجموعةٍ متتاليةٍ من الأحداث المترابطة أو غيرِ المترابطة، لكنها فنٌّ يمتلك تنوُّعًا غنيًّا من الإمكانيات السردية الجامعة بين المواضيع التربوية ومواضيع التأمل الشخصي والخيال الجامح، فضلًا عن جمعها بين ما هو اجتماعيٌّ ونفسيٌّ وفلسفيٌّ[26]، ولذلك يُضفي (روجر ألن) على هذا الفن أهميةً كبيرةً مراهنًا على قدرته في تحريك جوامد المجتمع العربي، وفي إحداث التغيير الثقافي اللازم والمواكب للعصر.
وإذا كان هذا المستشرق يذهب إلى محاكاة الرواية العربية لأختها الغربية وتأثّرها بها واقتباسها منها، فإننا نجد له محاولاتٍ واجتهاداتٍ نقديةً واضحةً في أن يتلمس لها جذورًا في الموروث العربي الحكائي الذي يشمل (النوادر، والصور القلمية الموجزة، والحكايات ذات المغزى الأخلاقي، وقصص الهروب العجيبة، والأنماط المشابهة، وقد جُمعت هذه الأعمال في مجلداتٍ تحت عناوينَ كثيرة التنوع بهدف توفير المتعة للفئات التي تستطيع القراءة، خاصةً أصحاب السلطة)[27].
أما في محاولته التوفيق بين الحضارة الغربية والحضارة المنتجة للرواية والحضارة العربية صانعة ألف ليلة وليلة والملاحم الشعبية والأسمار؛ فربما يلتقي (روجر ألن) مع النُّقّاد الذين قالوا باحتواء الرواية على الجذر الملحمي وباشتمالها على عدةِ أجناسٍ تعبيريةٍ، واحتوائها على تداخل لغاتٍ وأصواتٍ متعددةٍ، ومن هؤلاء النقاد (ميخائيل باختين) على سبيل المثال.[28]
وعلى أمد قرنين من الزمان يمسح (روجر ألن) بشكلٍ موجَزٍ الظروف المحيطة بعصر النهضة في مختلف الأقطار العربية راصدًا هذا الفن الجديد في الأدب العربي، منذ بداياته الأولى في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر على يد اللبناني ( بطرس البستاني 1819-1883) حتى بلوغه الخطوة الفنية الأولى أوائل القرن العشرين على يدي محمد حسين هيكل في روايته (زينب 1913م) ثم بلوغه قمة النضج الفني منتصف القرن العشرين في مصر التي يَعدّها نقطةً جغرافيةً مركزيةً في نشأة الرواية العربية واكتمالها جنسًا أدبيًّا من الناحية الفنيّة[29].
ويحاول هذا المستشرق الإنجليزي في رصده لهذا الأمد الزمنيالطويل نسبيًّاالتوقف عند أهم العلامات الفارقة في تاريخ الرواية العربية دون أن يقع في الانتقاء المُخِلّ الذي كان يحذره[30] في عرضه لمسيرة الرواية العربية الممتدة لما يقرب من القرنين من الزمان بين إرهاصتها الأولى وسِنِيِّ نضجها، الأمر الذي أوقعه في الخلط -أحيانا- عند حديثهعن الرواية بوصفها جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته، ويتضح ذلك جليًّا من خلال ضربه الأمثلة التوضيحية لهذا الحديث عبر تناوله الأجناس الأخرى القريبة من فن الرواية، كفَنَّيِ القصة القصيرة[31]، والسيرة الذاتيّة مثلا.[32]
أما مراحل تطور الرواية العربية الحديثة في هذا الأمد الزمني الطويل فيحصرها (روجر ألن) بثلاثِ مراحلَ أساسيةٍ في مسيرة الرواية العربية الحديثة، هي كالآتي: مرحلة البدايات الأولى المرتبطة بالنهضة العربية الحديثة وبتطوّر تقاليد النثر الأدبي فيها، ومن ثم مرحلة المحاولات القصصية المبكرة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وأخيرًا مرحلة نضج الرواية العربية التي يحددها بين العام 1939م وحتى تاريخ حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عن ثلاثيّته المشهورة سنة 1988م.
وقد اتّكأ (هذا الناقد الغربي) على عددٍ من الدارسين العرب والغربيين في التأصيل التاريخي للرواية العربية في مراحلها الثلاث، وقد تعددت إحالات هوامشه على المصادر العربية والغربية؛ وإن كانت نسبة الغلبة فيها تشير إلى المصادر العربية الحديثة المتعلقة بالجنس الروائي على حساب المصادر الأخرى مجتمعةً.
وبعد أن ينتهي (روجر ألن ) من التأريخ المناسب الذي يرتئيه للرواية العربية يفتح بابًا في كتابه للحديث عن الموضوعات الأثيرة للرواية العربية في مرحلة نضجها واكتمالها، بحيث تحولت الرواية العربية مع هذه الموضوعات إلى جنسٍ أدبيٍّ مستقرٍّ قادرٍ على النهوض بوظيفته الاجتماعية والأخلاقيّة، وتتلخص هذه الموضوعات بالآتي:
أ- الصراع والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي الغاصب لا سيما مع الروائيين الفلسطينيين، كغسان كنفاني في روايته (رجال في الشمس)، وجبرا إبراهيم جبرا في (السفينة) وإميل حبيبي في (سداسية الأيام الستة) وسحر خليفة في روايتها (لم نعد جواري لكم) وغيرهم[33]،
ب- الثورة والاستقلال والتحرر، وهو ما تجسده روايات العديد من الروائيين العرب، كنجيب محفوظ في ثلاثيته، والمغربي عبد الكريم غلاب في (دفنّا للماضي) والجزائري الطاهر وطّار في روايته (اللزّ)، والعراقي غائب طعمة فرمان في (خمسةُ أصواتٍ)، واللبناني توفيق يوسف عواد في (الرغيف)، والسوري حنا مينا في (الشراع والعاصفة) وغيرهم[34].
ج- الحرب الأهلية اللبنانيّة، كما جسدتها أعمال كلٍّ من: توفيق يوسف عواد في رواية (طواحين بيروت) وغادة السمان في (كوابيس بيروت) وإلياس خوري في (الجبل الصغير) وغيرهم[35].
د- إشكالية العلاقة مع الغرب، ولا سيما في مرحلة ما بعد التحرر من نير الاستعمار، وكما جسّد ذلك كتاب عربٌ مختلفون، منهم: اللبناني يوسف إدريس في (الحي اللاتيني) والسوداني الطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال) والمغربي محمد زفزاف في (المرأة والوردة) وغيرهم.[36]
هـ- التحولات الاجتماعية بعد استثمار النفط، كما تعكس ذلك روايات الروائي السعودي الأصل عبد الرحمن منيف كـ(النهايات) و(سباق المسافات الطويلة) ثم خماسيته المطولة(مدن الملح)[37].
و- العلاقة بين الريف والمدينة، وهي موضوعةٌ ليست جديدةً على الرواية العربية، فقد رسم لها الروائي العراقي ذو النون أيوب صُوَرًا نابضةً بالحياة عام 1948 في روايته (اليد والأرض والماء) وتابعه في مصر عبد الرحمن الشرقاوي في روايته المشهورة (الأرض) ومواطنه يوسف إدريس في رواية (الحرام) ثم يوسف القعيد في (عزبة المنيسي) وصنع الله ابراهيم في روايته (نجمة أغسطس)، وغيرهم[38].
ز- المرأة ودورها الاجتماعي، حيث تعكس عنوانات الروايات العربية الأولى-بحسب روجر ألن- كرواية (ذات الخدر) و(زينب) و(ثريا) و(سارة) و(حواء) اهتمام الكتاب والمثقفين العرب بالمرأة[39] التي لا يمكن لها أن تغيّر من منزلتها ووضعها الاجتماعي إلا من خلال التعليم والتوق للحرية والمساواة، وهو ما تجسّده رواية (أنا أحيا) التي كتبتها الروائية اللبنانية (ليلى بعلبكي) عام 1958م.[40]
حـ- الفرد والحرية، وهو ما تعكسه مجموعة الروايات التي جعلت من موضوعة السجن مادةً لمقارعة القمع السياسي في البلاد العربية كروايات (السجن 1972) لنبيل سليمان و(الوشم 1972) لعبد الرحمن مجيد الربيعي و(شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف و(تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، وغيرها من الروايات العربية التي أخذت على عاتقها تصوير صراع الفرد العربي في مقاومته للاضطهاد السياسي وتوقه للحرية التي يفتقدها في وطنه[41].

المبحث الثالث
الاشتغال النقدي عند روجر ألن.. من المفهوم إلى الإجراء
إذا كان الجانب النظري من النقد الأدبي مهتما بالبحث في ماهية الأدب ووظيفته وتصوراته ومفاهيمه العامة، فإن الجانب التطبيقي سينصبّ حول تساؤلات الناقد عن مقوّمات العمل الأدبي، وطريقة الكاتب (الأديب) في تصوير هذه المقومات وتجسيدها فنيًّا وبيان مدى نجاحه أو إخفاقه في ذلك.
وبما أن (روجر ألن) اختار الرواية العربية ميدانًا لاشتغاله النقدي، فهو يعترف بعد استعراضه السريع لوضع الكتابة الروائية العربية بقصور هذا الاستعراص عن الإحاطة بكل الأعمال المهمة والمرموقة[42] مُعلنًا عن انتقائه نماذجَ روائيةً محدَّدةً بغية الانتقال برؤيته النقدية الخاصة (من داخل النص إلى الميدان العام لبحث وضع كلٍّ من الكاتب والقارئ، وكذلك النص الروائي نفسه)[43]
ولذلك فهو يختار اثنتي عشرة روايةً كنماذجَ للتحليل الكاشف عن قناعةٍ مختمرةٍ وعن رؤيةٍ مسبَقةٍ مفادها: إن الرواية تمثّل النمط الأدبي الأكثر قدرةً على الكشف عن تعقيدات الحياة في مجتمعٍ ما وعن مناحي التنوع والتناقض فينا كبشرٍ، فضلًا عن أن هذه الرواياِت المختارةَ كلَّها منشورةٌ بعد حرب حزيران 1967م وأثارت جدلًا كبيًرا وتفكيرًافي الطريقة العقيمة التي يحيا فيها المجتمع العربي[44]. أما الروايات العربية التي أثارت الفضول النقدي عند (ألن) فكانت كالآتي:
1 - «ثرثرةٌ فوق النيل» لنجيب محفوظ، الذي جمع فيها هذا الروائي عددًا من الشخصيات المثقفة تجمعهم عوامةٌ راسيةٌ في النيل، يلتقون فيها مساء كل يومٍ، وقد انقطعت صلتهم بالواقع من حولهم، فانصرفوا إلى ملذاتهم، وافتقدوا القدرة على المشاركة العملية في المجتمع، وقد وجد (ألن) هذه الرواية من أغنى روايات محفوظ رمزيةً[45]، وما العوامة فيها إلا ( وسيلةٌ للانعزال عن عالم المدينة وعن المجتمع ومشكلاته، وسبيلًا للابتعاد عن الغربة التي تفرضها طبيعة الحياة الحديثة)[46]. ويتضح اقتراب (روجر ألن) في تعليقاته النقدية حول هذه الرواية من تصورات المنهج الاجتماعي التي فسّرت علاقة الفن بالواقع انطلاقًا من أن الفنون والآداب ما هي إلا انعكاسٌ لواقع الحياة وتطوُّرها.
2 - «ما تبقّى لكم»، لغسان كنفاني، وهي: روايةٌ تتناول معاناة أسرةٍ فلسطينيةٍ نازحةٍ بسبب الاحتلال الاسرائيلي عام 1948م، ثم تأخذ أحداثها بمتابعة تشتت الأسرة ممثّلةً بشخصية (حامد) وأخته (مريم) اللذين يكابدان أصناف المعاناة والعذاب بسبب تبدّل طريقة حياتهما بعد هذا النزوح المرير.
ويجد (ألن) في شخصية مريم التي أُجبرت على الزواج من الشخص الخائن (زكريا) صاحب الأولاد الخمسة الذي استغل براءتها وأنوثتها تجسيدًا لخيانة قضية فلسطين من الداخل[47]، وينتهي إلى أن الكتابات القصصية لكنفاني الملتزم بقضيته الكبرى (لا تكترث بالواقعية المضخمة التي تميز، بل يمكننا القول أنها تشوّه أعمال الآخرين ممن كتبوا عن القضية الفلسطينية دون أن تكون لديهم ملكات كنفاني الفنيّة).[48]
3 - «عودة الطائر إلى البحر»، لحليم بركات المكتوبة بتأثير هزيمة حزيران التي أذلّتالعرب سياسيًّا، وهزت ضمائرَ كُتّابهم أدبيًّا عبر تغيير أشكال الكتابة لتشتمل على مظاهر مأساويّة الواقع وتشظياته، وقد تجسّدت أبعاد هذه المأساوية من خلال الشخصية الروائية التي يمثّلها في هذه الرواية البطل (رمزي الصفدي) الأستاذ الجامعي المشتت والمهزوم والمعبّر عن وعي الطبقة المثقفة العربية، وتلجأ هذه الرواية إلى أسطورة الهولندي الطائر(*) وتتخذ منها أنموذجها الأمثل لربط المأساة بالمأساة، بحيث يصبح الهولندي الطائر رمزًا للعذاب الفلسطيني المستمر، وتصبح البلاد العربية كسفينةٍ تائهةٍ دون دفةٍ في محيط هائجٍ[49].
4 - «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، وهي رواية تتحدث عن التقاء الغرب والشرق وتناقضهما، واختلال التوازن بينهما بسبب سوء التفاهم الناجم عن تصادم القيم الثقافية لكلٍّ منهما، وذلك من خلال رحلة شخصٍ قرويٍّ شديد الفطنة (مصطفى سعيد) الذي ينتقل من قريةٍ سودانيةٍ منعزلةٍ لأغراض الدراسة إلى (لندن) المدينة الغربية الحديثة شكلًا ومضموًنا، وبعد هذه الرحلة المفعمة بالاكتشاف وبالعلاقات النسائية المتعددة الدوافع يعود البطل (مصطفى سعيد) ليتزوج من امرأة (حسنة) تنتمي إلى قريته ويشعر -كما ينقل لنا الراوي الذي يتابع هذه الأحداث بطرقٍ مختلفةٍ- أنها الوحيدة التي أحبها بصدقٍ، وحين يموت البطل يكتشف الراوي الذي اطلع القارئ على أسراره الشخصية وغوامض رحلته البعيدة وعلاقاته المتعددة أن حياة مصطفي سعيد ما هي إلا (رمزٌ كاملٌ لشعوره بالغربة داخل وطنه الأصلي، والذي سعى دائما لتأكيد هويته في فترة غربته أثناء وجوده في لندن)[50].
5 - «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم المبنية حول حياة (عبد العزيز) الذي تتخذه الرواية محورًا لما يحيط به من أمورٍ وأحداثٍ يتحرك فيها ضمن عائلةٍ قرويةٍ تنتمي إلى مجموعةٍ صوفيةٍ (دراويش) داخل قريةٍ من قرى الريف المصري فترصد مراحل حياة هذا البطل في تنقّله من عالم الطفولة إلى عالم المراهقة والرجولة ثم اكتمال الشباب وما يصاحبه من تبدُّلٍ بالوعي نتيجة الاطلاع والدراسة والاكتشاف.
وبحسب (ألن)، فإن هذه الرواية تكشف من خلال أسلوب الاسترجاع (فلاش باك) عن نفور (عبد العزيز) من تقاليد المجموعة الصوفية التي ينتمي إليها بتأثير الوعي والدراسة الجامعية في الاسكندرية، وعليه فيمكن (رؤية الرواية على أنها نظرةٌ من الداخل لعملية تغييرٍ طويلةٍ وصعبةٍ في كثيرٍ من الأحيان، وكمواجهةٍ بين المفاهيم الشعبيّة للدين والخرافات السائدة ضمن تركيبة القرية من جهةٍ وبين سمات العالم المتغير في الخارج كما تتجلى في حياة المدينة والتعليم المعاصر من جهة أخرى)[51].
6 - «السفينة» لجبرا إبراهيم جبرا، روايةٌ تدور أحداثها المتقاطعة والمتداخلة من خلال حديث مجموعةٍ من المثقفين الذين يعانون من تناقضات الواقع المحيط بهم، وهم على ظهر سفينةٍ منطلقةٍ من بيروت إلى أحد الموانئ الأوربيّة، ووجد (ألن) في سفينة جبرا براعةً في طريقة السرد وتوظيفًا موفَّقًا للرموز، فالسفينة عالَمٌ مصغَّرٌ تتبادل فيه مجموعةٌ من المثقفين الأفكار المتعلقة بوجودهم وبنمط معيشتهم، أما البحر فما هو الأفق المفتوح لأصحاب هذه الأفكار وهم يتوقون إلى الحرية وإلى المطلق[52].
7 - «رباعية إسماعيل فهد إسماعيل»، وهي عبارة عن أربع روايات متسلسلة نشرت بداية السبعينيات من القرن الماضي بالتتابع، وكالآتي: (كانت السماء زرقاء) (المستنقعات الضوئية)، (الحبل)، (الضفاف الأخرى)، وقد اتخذت من القمع السياسي وما رافقه من حرمانٍ واضطهادٍ واعتقالٍ ونفيٍ سياسيٍّ طال مجموعة من المثقفين العراقيين مطلع الستينيات من القرن المنصرم[53]، وتدور أحداث الرواية الأولى حول هروب شخصيتَيِ البطل والضابط الذي أقعدته إصابته بسبب الثورة الحاصلة في البلد و منعته عن مواصلة الحركة، وكلاهما ينشد الهرب خلاصًا من ماضٍ مؤلمٍ فيلتقيان لتدور أحداث الرواية من خلال حواراتهما واسترجاعاتهما كل لماضيه، أما رواية (المستنقعات الضوئية) فيشير عنوانها إلى زنزانات السجن التي تتسلل إليها خيوط الشمس بين حينٍ وآخرَ لتنير جوها الكابي النتن، وبطل الرواية (حميدة) سجينٌ محكومٌ عليه بالمؤبد لأنه دافع عن فتاةٍ تعرضت للقتل على يد أخويها في شارعٍ عامٍّ[54]، في حين لا يحمل بطل رواية (الحبل) اسما على الرغم من ميوله اليسارية الواضحة، وهو سجينٌ سياسيٌّ أيضا يفقد وظيفته الحكومية عقابًا له فيضطر لدخول الكويت للعمل، وبعد اكتشاف السلطات الكويتية عدم حيازته لجواز سفرٍ رسميٍّ تقوم بطرده للحدود، وهناك يصادر كل ما عنده من أموال ادخرها لأولاده، فينتهي به المطاف ليكون لصًّا لا يسرق إلا رجال الشرطة![55] ويضيف إسماعيل فهد عام 1972 إلى رباعيته روايته الثالثة (الحبل) ذات الشخصية الرئيسة الواحدة حين يبدأ بطل الرواية بسرقة بيت أحد ضباط الشرطة، ومن خلال هذا الموقف يدور حوارٌ داخليٌّ بين البطل وذاته، وقد استبطن هذا الحوار استرجاعاتٍمتتاليةً لمواقفَ مختلفةٍ من حياة البطل المتخذ من الحبل الذي يحمل عنوان الرواية وسيلة الوصول إلى البيوت لسرقتها، ثم يختتم هذا الروائي رباعيته برواية (الضفاف الأخرى) محاولًا متابعة خيوط وملامح الشخصيات الرئيسة التي رسمها في رواياته الثلاث السابقة بهدف متابعة خطٍّ قصصيٍّ متوائمٍ معها جميعًا[56]، غير أن صاحب الرباعية -بحسب ألن- ظلّ دون مستوى النجاح في إنتاج تجربةٍ مركّزةٍ، كما أن كلَّ روايةٍ من رواياته الأربعة تمتعت بوجودٍ مستقلٍّ عن بقية أخواتها من الروايات المندرجة ضمن هذه الرباعيّة[57].
8 - «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، التي ترصد حالة مصر إبان السلطة المملوكية من 912 هــ إلى 923هـ، وهي فترة تعيين الزيني بركات محتسبا ذا سلطاتٍ هائلةٍ. كما تبين صراع الأمراء المماليك في ما بينهم حول السلطة وتجسس البعض منهم على الرعية والسلطان لصالح الأتراك وما رافق ذلك من قمع واستبداد وعنفٍ سياسيٍّ. غير أن هذه الرواية ذات التكنيك السردي المتنوع، وإن استلهمت التاريخ؛ فقد ظلت مليئة بالمفاتيح والدلائل التي تستهدف الحاضر الذي يحياه الكاتب[58]. وعلى الرغم من وجود تشابهٍ واضحٍ بين عهد الزين بركات المليء بالبصاصين (الجواسيس) والمنتفعين السياسيين وعصر الرئيس المصري (عبد الناصر) فروجر ألن يرفض أن تصنّف هذه الرواية على أنها مجرد انعكاسٍ للحظةٍ تاريخيةٍ معينةٍ ومحدودةٍ، مؤكّدًا في الوقت نفسه مساهمتها الواضحة في تطوير أساليب السرد في الرواية العربيّة الحديثة[59].
9 - «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»لأميل حبيبي، وهي عبارةٌ عن ثلاث رسائلَ أرسلها سعيد أبو النحس المتشائل إلى الراوي بعد أن اختفى سعيد مع رجل الفضاء، ويعرض في هذه الرسائل ما يتعلق بتاريخه العائلي ومقتطفاتٍ من حياته بصورةٍ تبعث على السخرية والضحك من الطريقة التي يحيا فيها عرب إسرائيل بعد حدوث النكبة عام 1948م. ويجد (روجر ألن) هذا العمل الروائي مكرّسًا للتجربة الفلسطينية بكل أبعادها المأساويّة[60] ثم يخلص إلى أن إميل حبيبي من خلال رسالته في هذا العمل تعبيرًا أدبيًّا أخّاذًا عن حاجة عرب (إسرائيل) لما يعبّر عن كينونتهم ووجودهم كأعضاء في مجتمعٍ منقسمٍ على نفسه.[61]
10 - «النهايات» لعبد الرحمن منيف، وهي روايةٌ تتخذ من الصحراء موضوعًا لها بخلاف الروايات العربية التي غالبا ما يكون موضوعُها المدنَ وسكانَها المنتمين للطبقة البرجوازية[62]، ومسرح الرواية قرية (طيبة) الواقعة على تخوم الصحراء حيث الصعوبات الجمة التي يواجهها سكان هذه القرية المهددة بالرمال الزاحفة وبالحرارة اللاهبة وشحة المياه على مدار العام، ما يجعل منها روايةً تركز على جماعةٍ لا على بطلٍ فردٍ مع وجود شخصيةٍ رئيسةٍ (عساف) المحب للطبيعة والرافض لصيد الحيوانات والطيور البرية بشدةٍ، كما أنها روايةٌ تركّز على البيئة أكثرَ من تركيزها على الأحداث[63].
11 - «حكاية زهرة» لحنان الشيخ، حيث ترتبط هذه الرواية بفترةٍ تاريخيةٍ معروفةٍ من حياة الشعب اللبناني هي فترة الحرب الأهلية ودخول إسرائيل إلى الميدان اللبناني، كما تعالج الرواية ضمن إطارها السردي المتشعب وضع المرأة متخذةً من سلوك (زهرة) الفتاة المنحدرة من جنوب لبنان والمجسّدة لتحطّم الأسرة اللبنانية وتفكّك أواصرها أثناء الحرب.[64]
إن هذه الرواية -بحسب روجر ألن- مليئةٌ بالرموز ابتداءً من عنوانها مرورًا بتوزّع جسد (زهرة) بين أربعة رجالٍ، ابن عمها قاسم، ومالك صديق شقيقها، وهاشم خالها، وماجد زوجها، وانتهاءً بتشتت الأمكنة التي تحلها زهرة وتنوّعها[65].
12 - «نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني، تتحدث عن علاقةٍ بين الشخصية المحورية (أسوف) وحيوان الودان الصحراوي (تيس جبليّ) يحيطه الغموض والغرابة ويسبغ عليه من يروي أحداث الرواية صفاتٍ إنسانيّة[66] تؤكد وحدة وتكامل مخلوقات الطبيعة الصحراوية التي تنتمي لها الرواية[67]. وتقدم نزيف الحجر- كما يرى ألن- رؤيًا فريدةً من خلال تركيزها على المكان القصيّ (الصحراء) في البيئة العربي عبر اللجوء للأسطورة، ومن خلال الاستعانة بأسلوبٍ سرديٍّ ينوّع ألوان الحكي ما يجعل القارئ متوَثّبًا على الدوام حينما يجري تغريب الواقع بين يديه بهذه الطريقة المذهلة[68]
ويبدو لنا ونحن ننهي هذا العرض الموجز للنصوص الروائية التي حلّلها (روجر ألن) أنه قد اعتمد منهجًا وصفيًّا انتقائيًّا حاول من خلاله البحث عن محاور التقاطع والالتقاء بين مضامين النصوص الروائية التي حللها والأفكار التي تشغل المثقفين العرب والثقافة العربية ولا سيما في الفترة التي تلت نكسة حزيران 1967م. وقد ظل (روجر) ألن مشغولًا في كل النماذج التي اختارها ناقدًا مضمونيًّا يتصيد الرؤى الاجتماعية دون أن يتغلغل في جماليات أشكال هذه المضامين، ما يدلل على أنه لا يرى في الأدب إلا انعكاسًا مرآويًّا للواقع الذي أنتجه، وإنّ هذا الأدب لا يحتمل مبدأ الاستقلال الضمني عن المجتمع الذي أنتجه أو حتى عن المبدع الذي أبدعه، ومع هذا يبقى كتابه على قدرٍ من الأهمية لأنه ينبّه القارئ العربي على نوعية الرواية العربية الأكثر إثارةً للقارئ الغربيّ الحصيف والأكاديمي على وجه الخصوص.

المصادر والمراجع
- أحمد إبراهيم الهواري نقد الرواية العربية في الأدب العربي الحديث في مصر، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، د. ط، 2003م.
-أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر. (القاهرة: المؤلف، بدون تاريخٍ).
- ب.م كربرشويك: الابداع القصصي عند يوسف إدريس، ترجمة: رفعت سلام، دار سعاد الصباح، الكويت، الطبعة الأولى،1993م
- جاك جومييه: ثلاثية نجيب محفوظ، ترجمة: نظمي لوقا، مكتبة مصر، القاهرة، 1974م.
- روجر ألن: الرواية العربية مقدمةٌ تاريخيةٌ ونقديّةٌ، ترجمة: حصة إبراهيم المنيف، المشروع القومي للترجمة، 1997م (د ط).
- : مقدمة للأدب العربي، ترجمة: رمضان بسطاويسي، مجدي أحمد توفيق، فاطمة قنديل، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، 2003م.
- عبد الله العروي: الأيديولوجية العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت، د. ط، 1970م
- عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، بحثٌ في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة (240)، الكويت، 1998م.
- محمد سويرتي: النقد البنيوي والنص الروائي، نماذجُ تحليليةٌ من النقد العربي،دار إفريقيا الشرق، المغرب، ط2 1994م
- محمد القاضي وآخرون: معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس ط1، 2010م.
- ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، ط1 1987م.
- نجيب العقيقي: المستشرقون، دار المعارف، مصر، ط4 1980م، ج2.
- د. وائل علي السيد: المستشرقون وأثرهم في الدراسات الأدبيّة العربيّة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2013م.
* https://ar.wikipedia.org/wiki/
* https://www.albayan.ae/paths/books/2008-06-29

----------------------------------
[1] ينظر، نجيب العقيقي: المستشرقون، دار المعارف، مصر، ط4 1980م، ج2 / ص61
[2]    للوقوف على الأسباب العديدة لعزوف الاستشراق عن دراسة الأدب العربي الحديث، ينظر مثلا، أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر. (القاهرة، بدون تاريخ) ص492 وما بعدها.
[3] ينظر، روجر ألن: لا أترجم لأديبٍ لا أعرفه شخصيًّا، حوارٌ أجرته معه مجلة البيان الإماراتية بتاريخ 29 يونيو 2008 على الرابط https://www.albayan.ae/paths/books/2008-06-29-1.652368
[4]    ينظر، د. وائل علي السيد: المستشرقون وأثرهم في الدراسات الأدبيّة العربيّة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2013م، ص 183.
[5]    ينظر، روجر ألن: الرواية العربية مقدمةٌ تاريخيةٌ ونقديّةٌ، ترجمة: حصة إبراهيم المنيف، المشروع القومي للترجمة، 1997م (د ط)، ص،13.
[6]    ينظر، روجر ألن: مقدمةٌ للأدب العربي، ترجمة: رمضان بسطاويسي، مجدي أحمد توفيق، فاطمة قنديل، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، 2003م، ص 393.
[7]    ينظر، روجر آلن: لا أترجم لأديبٍ لا أعرفه شخصيًّا، مصدرٌ سابقٌ.
[8] ينظر، محمد القاضي وآخرون: معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس ط1، 2010، ص 201.
[9]    ينظر، عدنان بن ذريل: مصطلح الرواية وتطور مفهومها العربي، مجلة الآداب البيروتيّة، آذار، 1963م.
[10]  ينظر: عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة (240)، الكويت، 1998م، ص 11 وما بعدها.
[11]  ينظر، نفسه، ص 30.
[12]  للوقوف على ذلك ينظر مثلا: د. أحمد إبراهيم الهواري، نقد الرواية العربية في الأدب العربي الحديث في مصر، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، د. ط، 2003، ص 107 وما بعدها؛ وينظر أيضا، محمد سويرتي: النقد البنيوي والنص الروائي، نماذجُ تحليليةٌ من النقد العربي،دار إفريقيا الشرق، المغرب، ط2 1994م، ص 21 وما بعدها.
[13]  د. وائل علي السيد: المستشرقون وأثرهم في الدراسات الأدبيّة العربيّة، مصدرٌ سابقٌ، ص 186.
[14]  ينظر، عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت، د.ط، 1970م، ص 240.
[15]  ينظر:، أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ط، 1998م، ص 511.
[16]  ينظر، العقيقي: المستشرقون، مصدر سابق، ج1/ ص37.
[17]  د. وائل علي السيد: المستشرقون وأثرهم في الدراسات الأدبيّة العربيّة، مصدر سابق، ص 187.
[18]  المصدر نفسه، ص188.
[19]  ينظر، جاك جومييه: ثلاثية نجيب محفوظ، ترجمة: نظمي لوقا، مكتبة مصر، القاهرة، 1974م،
[20]  ب.م كربرشويك: الابداع القصصي عند يوسف إدريس، ترجمة: رفعت سلام، دار سعاد الصباح، الكويت، الطبعة الأولى،1993م
[21]  ينظر، روجر ألن: مقدمةٌ للأدب العربي، مصدرٌ سابقٌ، ص 22 وما بعدها.
[22]  المصدر نفسه، ص 233
[23]  ينظر، مثلا روجر ألن: الرواية العربية، مصدر سابق، ص18-19 والرأي لإدوارد سعيد كما ينقل ألن في الهامش رقم (6) من ص19.
[24]  ينظر، مثلا روجر ألن: الرواية العربية، مصدر سابق، ص18، ص20، ص22، ص28.
[25]  ينظر، روجر ألن: الرواية العربية، مصدر سابق، ص20.
[26]  ينظر، الرواية العربية ص22.
[27]  المصدر نفسه، ص 32
[28]  ينظر، ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، ط1 1987م، ص9 وما بعدها.
[29]  ينظر، المصدر نفسه، ص31-105.
[30]  ينظر، روجر ألن: الرواية العربية، ص177.
[31]  ينظر، مثلا، المصدر نفسه، ص 65
[32]  وينظر، مثلا حديثه عن سيرة طه حسين الذاتية في الأيام، ص68 من المصدر نفسه
[33]  ) ينظر، المصدر نفسه، ص 107 وما بعدها.
[34]  ) ينظر، نفسه، ص 118 وما بعدها.
[35]  ) ينظر، نفسه، ص 128 وما بعدها.
[36]  ) ينظر، نفسه، ص 133وما بعدها.
[37]  ) ينظر، نفسه، ص 135وما بعدها.
[38]  ) ينظر، نفسه، ص 135وما بعدها.
[39]  ) ينظر، نفسه، ص 147
[40]  ) ينظر، نفسه، ص 151.
[41]  ) ينظر، المصدر نفسه، ص 156 وما بعدها.
[42]  ) ينظر، نفسه، ص 195.
[43]  ) نفسه، ص 177.
[44]  ) ينظر، نفسه، ص 196.
[45]  ) ينظر، نفسه، ص203.
[46]  ) نفسه، ص 199.
[47]  ) ينظر، نفسه، ص 209.
[48]  ) نفسه، ص 212.
*) وهي عبارة عن شبح لسفينة أسطورية لا يمكنها أن ترسو في ميناء ومحكوم عليها الإبحار في المحيطات أبدا، ومن المرجح أن تكون هذه الأسطورة قد نشأت من الفولكلور البحري في القرن السابع عشر، وتبين المشاهدات المدونة لبعض البحارة أن السفينة تتوهج كضوء شبحي عند اقتراب سفينة أخرى منها... وعند محاولة إيصال أي رسالة من (الهولندي الطائر) إلى اليابسة أو إلى البشر يتضح أن طاقمها ماتوا منذ زمن بعيد، ويعد ظهورها علامة شؤم للبحارة ونذير بكارثة وشيكة. ينظر https://ar.wikipedia.org/wiki/
[49]  ) ينظر، روجر ألن، مصدر سابق، ص 213.
[50]  ) المصدر نفسه، ص 224-225.
[51]  ) نفسه، ص 231.
[52]  ) ينظر، المصدر نفسه، ص 247-248.
[53]  ) ينظر، نفسه، ص 250.
[54]  ) ينظر، نفسه، ص254-255.
[55]  ) ينظر، نفسه، ص 256.
[56]  ) ينظر، نفسه، ص257- 260.
[57]  ) ينظر، نفسه، ص 260.
[58]  ) ينظر، نفسه، ص 264.
[59]  ) ينظر، نفسه، ص 275.
[60]  ) ينظر، نفسه، ص 280.
[61]  ) ينظر، نفسه، ص 290.
[62]  ) ينظر، نفسه، ص 291.
[63]  ) ينظر، نفسه، ص 293.
[64]  ) ينظر، نفسه، ص 300.
[65]  ) ينظر، نفسه، 302.
[66]  ) ينظر، نفسه، 304.
[67]  ) ينظر، نفسه، ص 320 وما بعدها.
[68]  ) ينظر، نفسه، ص 325.